قراءة نقدية في فلم "عبر الأزقة" للمخرج يوسف الصباحي


في وداعهما الأخير في الرائعة الإيطالية Cinema Paradiso قال ألفريدو للشاب سالفاتوري ممسكًا رأسه بكلتا يديه: "لا ترجع، لا تفكر فينا، لا تنظر إلى الوراء، ولا تغرق في الحنين إلى الماضي ... أيًا كان ما ستفعله، أحبه، تمامًا كما أحببت غرفة عرض الأفلام عندما كنت طفلًا." ولم يعد سالفاتوري -الذي أصبح مخرجًا شهيرًا- إلا ليحمل جثمان ألفريدو إلى مثواه الأخير، ويفهم بعد عمر طويل، وهو يتأمل محل نشأته، لم ودعه ألفريدو بتلك الكلمات.


ثمة في "عبر الأزقة" ليوسف الصباحي ما ذكرني كثيرًا بهذا المقطع من الفلم، للحظة خِلتُني رأيته محل سالفاتوري الطفل، ينسل إلى غرفة العرض تاركًا للدهشة أن تحمله بعيدًا، ويحرص على أن يشير لسينما اللواء الأخضر -في إبّ القديمة- في مشهد الجنازة بالذات، حتى بدا وكأن الرجال يحملون نعش السينما اليمنية، أو مهدها، إذ ربما تبعث -بوجود يوسف وأمثاله- من جديد. إلا أن حضور السينما الإيرانية كان أكبر في العمل الأخير ليوسف، طيف أعمال كل من عباس كياروستامي -وربما أيضًا مجيد مجيدي- لم يكن صعب التتبع، في استمرار لنهج الواقعية الجديدة neorealism الذي يتميز، أكثر من أي شيء، بتناوله الحياة اليومية، على بساطتها واعتياديتها، ممعنًا في نقل تجرِبة البسطاء، بما تحمله من فقر ومعاناة وامتنان وكفاح، بأقل الأساليب تكلفًا، وأقربها إلى الواقع. في نهاية الأمر، يمكن اختصار "عبر الأزقة" بأنه يحكي قصة طفل شارد في رحلته لشراء خبز للضيوف، ولكن التجربة البشرية التي تكمن في التفاصيل هي الأساس، كل ما يحيط بالطفل، كل ما يسمعه، كل ما يراه، وكل ما يحدث معه.


عن الجمال

 

يقدم لنا الصباحي إب القديمة كما هي، بريئة من خدع التصوير، وتلاعب المنتجين، وخارج الثنائيات الطفولية والساذجة. مقدمًا لنا المدينة القديمة بكل ما تحمله من عنفوان، وتناقضات، وبساطة، وضوضاء، ومن حسن حظنا أن ما يبرع فيه الصباحي هو تعامله مع التفاصيل، وفلمه القصير غني بها: المطبخ المظلم والصحون "المكركبة"، طريقة إشعال التنور بالورقة وقلب دبة الغاز بحثًا عن نَفَس أخير، المرأة التي تغسل السجّاد فوق سقف المنزل، لُعْبَة "الكيكر" المثبتة بالأحجار، برنامَج "واحة اليوم/أوراق ملونة" على الراديو، أغنية "داي الشجاع" في الخلفية، الشاي بالحليب في علبة حليب الممتاز، الكرات الزجاجية "الزراقيف"، الملابس اليومية تحت الزي المدرسي، وكل التفاصيل المشبّعة بالحنين؛ التفاصيل التي نعرفها، ونشبهها، والتي كانت أهم عناصر الفلم. ذلك أن اليمني لا يرى نفسه في أي مكان، لا في مسلسلات رمضان، ولا في الإعلانات وكليبّات الأغاني، لا في معترك السياسة وآلة الإعلام، ولا في الداخل أو الخارج، وحين يرى نفسه -صادقًا وحقيقيًا- في عمل كهذا، فهو حتمًا سيحبه، بغض النظر عن أي تفاصيل أخرى.


ما أثار انتباهي كذلك هو إمعان الصباحي في المحلية، وفي اللهجة أكثر من كل شيء. هذا التأكيد على محلية الفلم وانطلاقه من بيئة الأحداث ذاتها أعطى توليفة خاصة قلّما شاهدناها في الأعمال اليمنية التي يتحدث فيها كل فرد في العائلة الواحدة لهجة مختلفة، ولا يشبه أيهم الآخر. لم يكن الصباحي مطالبًا بتقديم أي ترجمات إضافية كذلك؛ تعلمت ما تعنيه القوّارة، ولم أمانع كوني لم أفهم حديثهم في أثناء الوضوء عن "المسرجة"، وتفاجأت أكثر حين سمعت التهاليل المصاحبة للجنازة، إذ كانت جديدة عليّ. هذا الإمعان في المحلية جذاب للغاية، وبوابة، حتى لابن البلد ذاتها، لاستكشاف تجربة بشرية أخرى، لها جمالياتها وتفاصيلها التي تميزها عن غيرها.

 

يعيدنا هذا إلى تقديم الصباحي إب القديمة، وللتجربة البشرية التي أحاطت بأحمد في رحلته العادية جدًا خلال أزقة المدينة. ففي المدينة تحل تناقضات الحياة، جنازة في شارع وعرس في آخر، وفي المدينة تحل تناقضات الإنسان، يبيع والد أحمد القات في أكياس بلاستيكية -كما يفعل الجميع- ولكنه يخاف السرطان إذا ما وضع الخبز في كيس بلاستيكي. في المدينة القديمة يعرف الناس بعضهم، وإن لم يعرفوا بعضهم، وتكفيهم الأسماء ليحددوا مواقع بعضهم من خريطة الحياة. تتحدث النساء مع الأطفال من خلف النوافذ والأبواب، ويتشاجر ويتقاضى الجيران وكأنهم لم يكنوا لبعضهم احترامًا يومًا، ويتزاحمون لحمل نعش فقيدهم كما يتزاحمون ليزفوا عريسهم. قد لا يكون كل هذا مذهلًا، أو خاصًا بإبّ القديمة وحدها، ولكنه ما يعنيه أن تنطلق من ثقافتك، وأن تحكي عن الناس، وللناس، بكل ما يحمله الناس من موت حياة.

 

عقبات

 

حين سألتني رفيقتي قبل عرض الفلم عما إن كنت أظن بمقدور أي من أصدقائي/معارفي من المخرجين الوصول إلى العالمية يومًا، اجبتها ب: لا. كان يوسف أحد الذين فكرت فيهم حينها، ولكنني لم أغير الإجابة. ليس الأمر وأنهم لا يملكون المقومات لأن يقدموا أعمال عظيمة، بل إنني أضع فيهم أملًا كبيرًا، وأتشوق لرؤية جديدهم، حتى وإن كان هذا الجديد مقالات يكتبونها بين الحين والآخر، أو مقابلات على شاشة التلفاز. إلا أن إجابتي تأتي من تفهّم للواقع الذي يمرون به؛ الواقع الذي يجبر بعضهم على امتهان ما يعيقهم عن التفرد بالسينما، والواقع الذي يتركهم وحيدين أحيانًا، بل وغالبًا. ما يجب أن نفهمه جيدًا هو أن المخرج ليس كل شيء، قد يكون قائد الأوركسترا، إلا أن الكثير يقف خلف كل عمل، كتّاب السيناريو، الموسيقيون، العاملون في التصوير والتعديل وهندسة الصوت، الممثلون، التمويل، التسهيلات الحكومية، التعاون والثقافة الشعبية...إلى آخر القائمة الطويلة. بل إنه لا توجد دار سينما حقيقية في البلاد، ولا حتى واحدة، والمعجزة التي يتطلبها أن تنتج بلد ليس فيها دار سينما واحدة فلمًا يحصل على تقدير عالمي ليس بالأمر الهين، ومن غير المنطقي وضع توقعات إعجازية كتلك على مخرجين هم ربما الجيل الأول بحقّ في موجات السينما اليمنية.


كان لكل هذا تأثيره على مجرى الفلم بالطبع، إذ أنه ومهما حاول المخرج فلن يكون بإمكانه خلق ليوناردو دي كابريو من هواة لم يقفوا أمام كاميرا قبلًا، وقد اجتهد الممثلون بالفعل، إلا أن الكثير كان ناقصًا، ولا ألوم الصباحي على هذا إطلاقًا. الصوتيات لم تكن مذهلة هي الأخرى، ولكنني أتفهم الأمر كذلك. وأدرك أن ثمة الكثير من التفاصيل الأخرى التي أنجزت دون علم المشاهد، والصعوبات الجمّة التي لم يكن المخرج ليواجهها في أي بلد آخر. إلا أن هذا لا يعفينا من التساؤل عما إن كان بالإمكان أفضل مما كان، أي هل قام الصباحي فعلًا بكل ما يجب، وهل قدم فلمًا هو الأجمل في ظل المتاح؟ وإن لم يفعل، فأين كانت الإشكالية بالضبط؟ 


تعثّرات

 

إن كان يوسف قد أبدع في التعامل مع التفاصيل، فذلك لأنها غالبًا بصرية/سمعية وفي نطاق عمل المخرج، إلا أنه عانى كثيرًا في جوانب أخرى، خصوصًا في ما يتعلق بالسيناريو. مثّل الحوار عقبة شاقة أمام يوسف، لم يكن الفلم -بطبيعة الحال- متمركزًا على الحوار، إلا أنه حين لجأ إليه، لم يتعامل معه بالاحترام اللازم. غياب الحوار (غير المبرر) مثّل مشكلة -من جهة- كما في مشهد لعب الأطفال بـ"الزراقيف". المشهد الذي كان صامتًا بشكل غريب وغير اعتيادي، ليخترقه فجأة سؤال قادم من العدم، وغير مبرر كذلك، من أحد الأطفال عن "القوّارة". على النقيض من هذا تمامًا كان المشهد مع العم عبده -مع اقتراب النهاية- من طرف واحد تقريباً، وكان أشبه بمحاضرة حاول فيها المخرج أن يقول لنا شيئًا، وهو ما ينفرني على الصعيد الشخصي. وبين الصمت وخطابات الطرف الواحد، يغيب الحوار. 


ربما كان الشجار هو اللحظة الأكثر إنعاشًا في الفلم؛ بثّ العجوز -على يسار الشاشة- في "مشارعته" لجاره الحياة في جسد حوار متعثر إلى حد ما. حاول يوسف... أستطيع أن أرى أثر المحاولة وكان في العموم جيدًا نسبيًا، إلا أنه لو لم يكن ذاك العجوز هناك لظهرت بهاتة الحوار الذي بدا مصطنعًا، ولم أشعر بأنني قد أرى مثله بتلك الصورة. هذا الإشكال يتكرر كثيرًا في الأعمال اليمنية، والعربية عمومًا، والوصف الأدق له هو أنه حوار ذو وقع إذا ما كُتب، لا حين يتلفظ به الناس. أعني أنه أشبه بترجمة الحوار في الأفلام، قد يبدو منسقًا بصيغته المترجمة، لكنه ناقص حين تفهم لغة العمل وسياق الحدث، سواء في الرتم أو المعنى أو التعبيرات المستخدمة وغيرها من التفاصيل التي تشعرك بانقباض للقلب، حتى وإن لم تستطع أن تضع يدك على موضع الجرح. ما عدا هذا فالكلمات مقتضبة هنا وهناك بطول الفلم، ما جعلني أشعر بتفادي يوسف لأساس ربما يدرك في أعماقه أنه يعاني فيه، وربما تجنبه عمدًا تحسبًا للظروف.

 

الجانب الآخر الذي أثر كثيرًا في الفلم هو الحشو والحشد الذي ملأ عشرين دقيقة قصيرة، أراد يوسف لهذا الفلم أن يكون رسالة من وإلى إب القديمة، أن يحتويها ويقدم لها تحية إجلال، ويفعمها بالذكريات، إلا أنه كان يجدر به ألا يغرق في الحنين إلى الماضي، وأن يركز على الفلم، لا المدينة. حاول يوسف أن يقدم كل شيء عن المدينة، الجنازة والعرس والسينما والخلافات والأزقة والجامع والنساء المتسترات والرجال بـ"قِصَع" الشاي والعجوز الحكيم والرجل المؤمن وتناقضات الأب والأطفال بمختلف أنشطتهم في الشوارع وتفاصيل البيوت البسيطة وكل ما وقعت عينه عليه. كان كل هذا كثيرًا وتائهًا، وكان الأجدر بصانع أفلام يحب ما يفعله ألا يفكر فينا كثيرًا، وأن يهتم بالسينما قبل كل شيء آخر. وفي هذين الموضعين بالذات (أي الحوار والأحداث) تبرز حاجة يوسف، والأعمال اليمنية عمومًا -على اختلافها- إلى الكاتب، أديبًا كان، أو سينارستًا إن أمكن.


ثمة تفاصيل أخرى ربما أغفلها يوسف أو قدمها دون تبرير. حاول يوسف من البداية أن يرسم لنا شخصية أحمد، ونجح في تقديمها لنا بتفاصيل غير واعية أحيانًا ومقصودة أحيانًا أخرى، أحمد في نهاية الأمر طفل شارد إلى حد بعيد، حين يتابع الكرتون يدخل في عالمه الذي لا يسمع ما خارجه، وحين يرى أقل مُشتِّتات في الطريق فإنه يتوقف ليتأملها، ومنذ اللحظة الأولى فهو كثير النسيان، ومن الواضح للمشاهد أنه سيضيع نقوده. إلا أن الإشكالية الحقيقية بدأت عند عودة أحمد من المخبز بحثًا عن نقوده الضائعة، وتحديدًا في الطريقة التي يبحث فيها في الأرض، والطريق التي عاد منها، والتي كانت مختلفة عن الطريق التي ذهب منها. بالتأكيد ثمة طرق أخرى وأزقة متوازية من وإلى المخبز، ولكن أحمد لم يعد من حيث ذهب بالضبط، وهو ما لم يقدم الفلم أي تبرير له، إذ أن تتبع خطواتك هو ما يفعله أي طفل أضاع نقودًا، وهو ما يعرفه الكثير منا -بالطبع- عن خبرة شخصية مؤلمة. لا يمكن لشرود شخصية أحمد تفسير هذه الإشكالية، فأحمد طفل ذكي، والمشاهد التالية أثبتت لنا هذا، إذ أنه ذهب إلى منزل شخص لا يعرفه، بناء على وصف مقتضب، وأنجز مهمته بنجاح، كما ورافق العم عبده إلى منزل الأخير وعاد دونما مشاكل. إذًا فليس من المنطقي أن يخطئ الطريق ويتصرف بتلك الطريقة الغريبة وهو يبحث عن نقوده بينما بمقدوره أن يؤدي ما هو أكثر تعقيدًا.




وهذا يقودنا إلى المشهد الذي التقى فيه بالرجل الذي أعطاه النقود، إذ أتساءل بشدة عما إن لم يكن بمقدور يوسف تقديم ذلك المشهد بشكل أفضل! من الطريقة التي يبحث فيها الطفل في الأرض، إلى جلوسه وانتظاره لمبادرة الرجل، ووصولًا إلى النظرات والوقفات. أدرك أن الممثلين بعيدون عن الاحترافية، ولم يكن بإمكان الطفل تمثيل مشاعر الحيرة أو الحزن أو الخوف كما يجب، ولا أدري كم من مرة أعيد فيها التمثيل، ولكن هل يعني هذا أن يترك ذاك المشهد بتلك الطريقة؟ الأمر ذاته يتكرر حين يصل أحمد إلى المخبز، حيث تصدر ضوضاء عشوائية تأتي وتختفي فجأة بشكل غير منطقي، كما وفي ارتطام عابر بأحمد وهو يتابع الشجار، إذ هل فعلاً لم يكن بالإمكان تقديم مشاهد أفضل وأكثر واقعية واحترامًا للمشاهد؟ أمر آخر أثار تحفظي دون أن أحصل على تبرير مناسب له هو الزي المدرسي الذي حصل على نصيبه في البداية، بينما بدا لي -في الواقع- خارج السياق. ما فهمته هو أن أحمد -بخلعه للزي المدرسي وانتظاره للغداء والضيوف- كان قد عاد من المدرسة بالفعل. حصل هذا قبل صلاة الظهر بوقت ليس باليسير، وهو ما ليس بالاعتيادي في اليمن، وبالإضافة إليه كان الأطفال الآخرون -في مثل سنه- يلعبون في الشارع هم كذلك، ولم ألحظ أي شواهد لوجود أي طفل آخر عائد من أو ذاهب إلى المدرسة، وكأن أحمد كان الطفل الوحيد الذي ذهب إلى المدرسة ذاك اليوم. 


هذه التفاصيل قد تبدو سطحية وتافهة بادئ الأمر، إلا أنها تخل بمبدأ (أحسبه مهمًا للغاية في الأعمال الفنية) يرى كل ما بالإمكان التخلص منه دون أي تأثير على الأحداث أو إنقاص من محتوى العمل حشوًا لا بد من تصفيته لشحذ العمل وتنقيته من الشوائب. يسمى هذا المبدأ بـ "بندقية تشيخوف"، ويعني المصطلح وفقًا لتعبير تشيخوف نفسه: "إن ذكرت في الفصل الأول أن هناك بندقيةً معلقةُ على الحائط، فعلى رصاصة أن تنطلق منها في الفصل الثاني أو الثالث". وفي هذه الحالة، فإن لم يكن من قيمة جمالية/رمزية/قصصية/معنوية للزي المدرسي، فهو لم يكن يجب أن يحضر إطلاقًا. 



ومن هذا المنطلق فلا بد من أن يسأل يوسف نفسه: أين أريد أن أصل بفلمي؟ إذا كان يريد عرضه في أقرب مهرجان وأن يحصل على مديح العامة، فهكذا مشاهد تفي بالغرض وأكثر، أما إن كان يبحث عن السطوع وأن يحقق المعجزة نحو العالمية، فهو لن يرضى لنفسه بأن يُخرج مشاهد كتلك، مهما كانت الظروف، وأنا أدرك -مجددًا- أنها لم تكن بالهينة، لكنه هو كذلك يحتاج أن يدرك أن فلمه، مهما أحبه الناس، ليس على قائمة الأعلى مبيعًا في دور السينما، ولا في قوائم الترشيح للجوائز العالمية، ما يعني أن ثمة ما يجب أن يتحسن، وهو يفهم هذا تمامًا. بعض الأسباب خارج إرادته بالطبع، ولكن بعضها لا يزال تحت إمرته، وبإمكانه أن يغير الكثير. القناعة ليست فضيلة في هكذا مواقف، كن مغرورًا وطماعًا، ولا تنظر إلى الوراء، انظر إلى الأعلى، حين تحيط بك ظروف كهذه فلا طريق إلا إلى الأعلى.

الخاتمة

 

خاتمة الفلم كانت جميلة ومناسبة إذ تركت مفتوحة، واستوقفت أحمد في معضلة الكيس البلاستيكي الذي تكرر حضوره خلال الفلم كلّه. كما وكانت الموسيقى جميلة كذلك، وجذابة للغاية. يوسف -في نهاية الأمر- فنان مثقف، أي أنه يتجاوز التقنية إلى الإدراك، والمعرفة المجردة إلى الرؤية الفنية، ويكوّن في خضم التجربة فلسفته الشخصية عن كيف يجب أن تسير الأمور، وكل هذا ضروري وجوهري لأي فنان يريد أن يكسر حاجز النمطية والسقوف التي تلامس الرؤوس. إلا أن الأهم حاليًا هو أن يسأل نفسه: أين تكون البداية القادمة؟ ما يحتاجه يوسف -بنظري- ليس المديح أو التشجيع، ليس الحب ولا التبريكات، ولا حتى الجوائز. قد أكون قاسيًا جدًا هنا، لكنه ربما كان ليكون أفضل لو لم يحصل يوسف على أي جائزة للفلم، لا لشيء سوى ليبقى جائعًا. 


ما يحتاجه يوسف حقيقة، وبكل إلحاح، هو نظرة عميقة في الذات، تأملات في عمله الأخير، وتساؤلات عما يقوم به، وعن مواضع براعته ونقاط ضعفه، ومثلما ذكر في فلمه على لسان العم عبده: فمن قارب الخوف أمن. أرى أن يوسف بحاجة إلى أن يصنع فلمًا يقدم نفسه فيه بعيدًا عن اليمني وتفاصيله الغنية، حبذا لو كان فلمًا حواريًا. لا أعني هنا أن يخرج فلمًا من بطولة شابة نيجيرية تسكن في القطب الشمالي وتعزف الكلارينت لأرواح الغابة، ولكن أعني ألا تثقله وتعيقه محاولة تقديم التجربة اليمنية عن عملية الخلق والإبداع الفني، وتحقيق أساسيات الفلم المثالي، كما يراه تارانتينو على الأقل؛ أي الفلم الذي قد لا يعجب الجميع، ولكن لا يستطيع أحد أن يقول شيئًا منقصًا حياله. ما يعنيه هذا هو أن يوسف بحاجة إلى اتقان جميع الأساسيات أولًا؛ كيف تخلق شخصيات مُحكمة، كيف يبدو الحوار، البدايات والنهايات، الحبكة بأنواعها، التوازن بين الرمز والصريح، كما والتفاعلات بين الإنسان والإنسان، والإنسان والمحيط. من الأجدر بيوسف أن يحكي قصة الإنسان قبل أن يكون يمنيًا، ذلك أنه يمني، ويفهم خصوصيته، وبرهن على فهمه إياها، وسيتمكن من تفاصيل اليمني عاجلًا أم آجلًا، لكنه بحاجة لإتقان العمق الإنساني بعالميته، ألا يلهيه المحيط وهمّ الحنين إلى الأرض عن الأساسيات. يشبه الأمر -بشكل ما- هوس العصر بالقضية والرسالة، الفن الذي تغريه القضية بالتمركز حولها يولد مشوهًا وساذجًا إلى أبعد، وفي هذه الحالة فليس على يوسف أن يهتم بيمنية الفلم، بل بتقديم فن يحدث أن يكون عن اليمني، وبين الاثنين فرق.


لا يزال يوسف في بداية المشوار، ثم أن المدائح تقتل المواهب، قلت له هذا الكلام مباشرة سابقًا، وأقوله الآن مجددًا، وواثق -كما أعدت وكررت- من أنه يدرك ذلك. الحقيقة أنني كنت مضطربًا قبل مشاهدة الفلم، إذ هل أرفع من سقف توقعاتي بحكم أنه يوسف، أم أخفضه بحكم الظروف؟ وحين انتهيت منه كنت مضطربًا أكثر، إذ هل أرفع من حدة انتقادي بحكم أنه يوسف أم أخفضها بحكم الظروف؟! وفي نهاية الأمر أجد من الأنسب أن أقول له كما قال ألفريدو " أيًا كان ما ستفعله، أحبه، تمامًا كما أحببت غرفة عرض الأفلام عندما كنت طفلًا." 


** الصور المرفقة لمشاهد الفلم منقولة من موقع مهرجان كرامة اليمن لأفلام حقوق الإنسان