عن عقم الفنان في الدراما اليمنية:
(هذه الأضواء براقة للغاية)

كتبت عن المسلسلات اليمنية مرة واحدة تقريباً، قبل سنوات، ولم أتطرق للموضوع بعدها؛ إلا أن عناوين هذا العام شدتني. تغلبني الانتقائية تجاه المسلسلات أكثر منها لدى الأفلام، ببساطة لأنه من الأسهل أن يضل صناع المسلسلات الطريق، ومن الأصعب تكوين قصص تستحق مسلسلات طويلة. كتبت هنا قائمة تطرقت فيها لاقتراحاتي السينمائية، وتجنبت الإسراف في المسلسلات. حتى عمل عظيم كـ "صراع العروش" انتكس كغيره بنهاية متعجلة، فتهور الكتّاب والمنتجين في التعامل مع المسلسلات هو الأساس، وما دونه استثناء. لا تختلف الأعمال العربية واليمنية عن نظيراتها العالمية في هذا الجانب بطبيعة الحال، إلا أن ما نتميز به هو الهوس المدفوع بمحفزات الاقتصاد والآلات الإعلامية تجاه المسلسلات (في مقابل عقم شبه تام فيما يتعلق بالأفلام). أتفهم هذا الأمر، حقيقة، فالحوافز الاقتصادية هي المحركات الرئيسية للمجتمعات وحراكاته الثقافية، إلا أن هذا لا يعفي المنتج والكاتب والمخرج من تقديم أعمال محترمة، ولا يعفينا من النقد.

 

ألقيت نظرة على مختلف الأعمال اليمنية هذا العام، منذ البداية، وتوقفت عن المتابعة سريعاً، اللهم إلا من تتبع أخبارها، ومشاهدة مقاطع متفرقة أملاً في تكوين صورة أكثر شمولية عنها. لست هنا لنقد تلك المسلسلات تحديداً، ولا أتقصد أحدها دون غيره، بل لا أنوي ذكر اسم أي منها في هذا المقال. تركيزي هنا سيكون على السياق الثقافي اليمني المنتِج للفن عموماً، والمسلسلات التلفزيونية تحديداً، ذلك أن أعمال هذا العام أثبتت لي أن المال لم يكن أساس المشكلة قط؛ جزء منها ربما، ويلقي بظله على منابع العمل الفني والمجتمع المتلقي بكل تأكيد، ولكنه لم يكن الأساس. يتجاوز الإشكال الماديات إلى جوهر العمل الفني ذاته، وعقم الفنان، وتفاعلات المجتمع الفني في اليمن، وهذه المواجهة الصريحة -والجديدة كلياً- كانت حتمية، وستعطي ثمارها في المستقبل البعيد.

 

إلا أنه من المهم، قبل أي حديث، توضيح نقطة خلاف فيما يتعلق بعملية النقد ذاتها. ذلك أن آليات النقد والتقييم تختلف باختلاف سياقها، وتحديداً في تقسيمها البسيط إلى النقد المقارن والموضوعي. لا يُقيّم الطفل -مثلاً- باعتباره رساماً جيداً لأن لوحاته تباع في المزادات وتنافس غيرها في دور العرض والمتاحف. الطفل الذي يرسم جيداً يقيم هكذا لأنه يرسم اليوم أفضل مما رسم في الأمس، ولأنه يرسم في سنّه ذاك أفضل مما يرسم أقرانه. حين نتعامل مع مثال الطفل الرسام فإننا نختار بوعي آليات النقد المقارن، خصوصاً باختيارنا من نقارنه به، عوضاً عن نسف مجهوداته بتمحيص أعماله بمعايير الفن والجمال الأكثر صرامة. ومن هذا الإشكال تحديداً تخرج لنا معضلة النقد اليمني الحديث، أي في الخلط بين النقد الموضوعي ونظيره المقارن.

 

نعم، حين ننظر إلى الأعمال اليمنية اليوم فبإمكاننا أن نقول بكل ثقة أنها أفضل من أعمال القرن الماضي، وأفضل من أعمال ما قبل خمس سنوات، وما قبل الأمس. إلا أن كونها أفضل مما كانت عليه، لا يجب أن يعني بالضرورة أنها صارت جيدة. تقدم لنا اللغة -في نهاية الأمر- تعابير المفاضلة، ويقدم المنطق -بدوره- معايير تلك المفاضلة ودرجاتها. بمقدور كل شيء أن يصير مذهلاً متى ما قارنّاه بما هو أسوأ منه، إلا أن مربط الفرس يكمن في من نقارن به، وفي وجه المقارنة، ودرجة الأفضلية! أما ما إن كان العمل الفني -أي عمل كان- جيداً أو لا، فلهذا معايير لا علاقة لها بمحيطه ولا بسواه؛ الذهب قيّم بذاته، بينما العملات الورقية بحاجة إلى المقارنات لاكتساب قيمتها. أتفهم تماماً دور العاطفة في تضخيم قيمة المقارنة بالماضي، خصوصاً عند جمهور لم يألف إلا الرداءة لعقود، إلا أن هذا ليس موضع العاطفة، والتفهم لا يعني التقبل، ومن المؤسف أن يقع المثقفون في هذا الفخ.

 

في منشور قديم ليوسف الصباحي عن العروض التشويقية للمسلسلات اليمنية، أشار الصباحي إلى حضور المسدس والقتل فيها جميعها، وفي هذا -في رأيه الذي أوافقه عليه- مؤشر على دراما ضعيفة. انتقدت في جلسة مع أصدقاء ألمان أعمال الكتاب "هاينريش فون كلايست" التي أوصوني بقراءتها قبل أعوام. كان في أعماله، كغالب الأعمال الألمانية الأخرى التي مررت عليها، هوس بالقتل (لا الموت) والجنس، كنت صريحاً في نقدي وقتها: بدون هذين العاملين، ما كانت أي من قصصه لتتحرك خطوة إلى الأمام. بدا كلايست لي بحاجة إلى التمحور حول القتل والجنس وفشل في أن يكتب قصة، وهو ما وافقني عليه بعضهم على مضض، وبعد نقاش طويل. غياب الجنس في الدراما اليمنية قاد بطبيعة الحال إلى تفاقم حضور القتل في النهاية، حتى في أعمال هذا العام، وفي هذا مؤشر على دراما ضعيفة. لا يعني هذا ضرورة التخلص التام من القتل في الأعمال الدرامية، فهو كغيره أحد الثيمات الكبرى التي تؤرق بال البشرية منذ الأزل.

 

ما تحتاجه المسلسلات اليمنية، الآن أكثر من أي وقت مضى، هو التوقف عن ملاحقة الدراما السهلة، والفن السهل، والبحث عن كتّاب بمقدورهم رؤية العمق البشري المتشبع بالدراما خارج الحلول السهلة المتفجرة من البنادق. ذلك أنه -كما أكدت في البداية- كان لأعمال هذا العام أن أظهرت بوضوح مواضع الخلل، وتحديداً في الفنان الذي يقف خلف العمل الفني، وتحديداً أكثر في كل من الكاتب والمخرج. ظهرت مسلسلات هذا العام برّاقة للغاية، كان ثمة اهتمام احترافي وتفصيلي بكل ما تتلقاه عينا المشاهد، ولم يقتصر الأمر على الكاميرات ذات الدقة العالية واللقطات الجمالية، تابعت تصريحات القائمين على هذه المسلسلات، وهوسهم بأدق التفاصيل والرمزيات البصرية والصوتية، من الأزياء، إلى الديكور، إلى انعكاسات الضوء، والموسيقى التصويرية، وهو مجهود يحترم بالطبع، وخلفه دعم مادي غير مسبوق في البلاد، إلا أن ما أغفله المنتجون في نهاية الأمر هو أن كل هذا الجمال البصري لا يعفي الفنان من التقاعس في الإنتاج الفني، فليس كل ما يلمع ذهباً.

 

من الأسهل أولاً الإشارة إلى المخرج، باعتباره الصانع الحقيقي لأي مسلسل، والمطلع على كل جوانب العمل، وسأكتفي بالحديث عن الغياب العجيب للجدية، والعين المدققة في التفاصيل، والوعي الفني والثقافي الذي يتيح له التأقلم مع الظروف، وتقديم الأفضل في حدود الإمكان، مع التشديد على حدود الإمكان. كتب كثيرون، أذكر هنا منهم رياض حمّادي، عن السقطات الغريبة لمختلف المسلسلات، والتي توحي باستخفاف أحياناً، وقلة حيلة أحياناً أخرى، إلا أنني أود التركيز على التمثيل هنا. أتفهم التاريخ المتعثر للتمثيل في اليمن، لست هنا لانتقاد الممثلين، ولا أتوقع في بيئة صعبة وغير مهيئة كهذه أن نحصل على ممثلين ينافسون على الأوسكار، إلا أن هذا -مجدداً- لا يعفي المخرج من اللقطات التي تصلنا. حتى الأعمال التي انهمر المديح على التمثيل فيها لم تسلم من تفاصيل كان بإمكان المخرج أن يتدخل لتفاديها، ذلك أن ما يميز التمثيل -في نهاية الأمر- ليس اتقان أدوار البكاء والصراخ، بل قدرته على تغييب حقيقة أن ما نشاهده تمثيل في المقام الأول، والمخرج هنا هو المسؤول عن تقييم ما إن كان الحوار وتفاعل الشخصية مع الأحداث واقعياً، وما إن كان مشهد العراك يبدو طفولياً وساذجاً للغاية.

 

إلا أن من يقف خلف المخرج هو الكاتب في نهاية المطاف، يفضل بعض المخرجين كتابة أعمالهم بأنفسهم، ولا ينجح إلا القلة، أما البقية فسيحتاجون إلى من يكتب لهم. جوهرية الكتابة في السياق الفني لا يمكن إغفالها، لا في المسلسلات فحسب، فمن تنويعاتها تنبعث القصة والرواية والقصيدة والأغنية والمسرحية، ونحن إذ نشتكي من رداءة -لا مجال لإنكارها أو التبرير لها- في جودة السيناريوهات، فإن ما نعاني منه حقاً هو رداءة للعمل المكتوب عموماً، وعقم للكاتب له تجلياته -عند الحديث عن المسلسلات في حالتنا- في كل أساسيات العمل الفني، من الثيمات إلى الحوارات، إلى بناء الشخصيات والعوالم، وتطور الحبكة.

 

أثار اهتمامي -مثلاً- قبل أيام ملاحظة لزكريا الربع في نقده الدراما اليمنية، إذ يبدو أن الكاتب اليمني لا يزال عالقاً في البحث عن الكنز، وإن لم أكن مطلعاً على الأعمال القديمة، ولكنها فكرة جديرة بالمتابعة. إلا أن ما أنا متأكد منه هو أن هناك صعوبة في خلق ومتابعة ثيمات بمقدورها فرض نفسها في السياق الدرامي، فلا يسعف الكتّاب وقتها إلا القتل وما يرتبط به من قضايا الثأر وجرائم الشرف والمليشيا وحتى حروب العصابات، إذ بدونها لا يبقى ما يخلق الحبكة الدرامية. كان هناك تطور متوقع هذا العام بظهور أعمال تحاول تقديم ثيمات بدلالات قومية، إلا أنها لم تسلم من كونها محاولات تسويقية لاستمالة عاطفة الجمهور، حتى وإن لم تكن لتلك الرموز والدلالات أية علاقة فعلية بأي من تلك الأعمال.

 

كما ذكرت سابقاً، فأنا أتفهم تماماً أن الممولين والمنتجين هم من يدفعون مواضيع وأفكار بعينها بغرض جذب المشاهدات في نهاية الأمر. الأمر ذاته ينطبق على الإصرار اليمني على 30 حلقة لا داعي لأكثر من نصفها، فحتى 15 حلقة كثيرة على غالبية الأعمال. إلا أن هذا لا يعني براءة الكاتب من أي مسؤوليات، فالكاتب اليمني لا يزال يبحث عما هو سهل وقادر على كسب الجمهور، ويتقاعس أمام المساحة الضخمة المتروكة له. يشبه الأمر لوحة عملاقة تفوق حاجة الفنان، وعوضاً عن توسعة وتطوير العمل ليتناسب وحجم المساحة المتوفرة، فإننا لا نحصل إلا على حشو لا يصل بنا إلى مكان، ولا يحترم القصة ذاتها، ناهيك عن المشاهد.

 

إلا أن الأكثر غرابة في رأيي هو -وعلى الرغم من ملاحقة الكاتب والمنتج سوياً للثيمات السهلة القابلة للتسويق- أن هناك إصراراً على تقديم قصص معقدة في مواقع أو عصور معقدة؛ فنجد تلاعبات زمنية وقفزات سردية، شخصيات خيالية وعوالم فانتازية وأزياء تتطلب اهتماماً وأحداثاً تتطلب تأثيرات بصرية وصوتية وغيرها من التعقيدات التي تحاول التغطية على عجز العمل نفسه، وتصعّب من عمل الكاتب وإنتاج المسلسل دون أن ترفع من جودته، وأظن في هذا تأثر واضح بالأعمال الملحمية العالمية المعروفة. ما ينساه الكاتب -ربما- هو أنه لا بد من إتقان الأساسيات قبل الانطلاق إلى ما هو أبعد منها، فهذه الأساسيات هي ما يبنى عليه العمل بأكمله. بعض أفضل المسلسلات التي تابعتها لم تحتج إلى تعقيدات المواقع والأزياء، ولم تحاول الركض وراء الفانتازيا والسيناريوهات الجامحة والقصص المعقدة. يحضرني هنا أحد أقرب المسلسلات إلى قلبي Inside No. 9 وهو عمل بريطاني لا تخرج الحلقة فيه عن إطار مكان مغلق (منزل، غرفة، استديو...إلخ) ولا تزيد شخصيات الحلقة الواحد عن أصابع اليدين، بل أنها تكتفي بالممثلَين الرئيسيَين فحسب في بعض الأحيان، ولكنه أحد أكثر الأعمال دهاء وجمالاً على الشاشات. مسلسل ألماني آخر Tatortreiniger يتمسك بالأساسيات ذاتها ويفرض نفسه كأفضل عمل ألماني على الإطلاق، برأيي الشخصي طبعاً. ولا بد هنا من ذكر الفلم الممتع 12 Angry Men من خمسينيات القرن الماضي، والذي لا يزال على رأس قوائم التوصيات إلى اليوم، رغم أنه لا يعدو كونه ساعة ونصف ل 12 شخصاً في غرفة مغلقة.

 

ما يميز كل هذه الأعمال يتعدى اكتفاءها بمساحات ضيقة وشخصيات محدودة، بل هو تمسك لصناع هذه الأعمال بالأساسيات، وتحديداً الحوار. يحتاج الحوار، في الواقع، إلى إسهاب في مقالات تخصه هو، لجوهريته المنسية، ولتعامل الكتاب الساذج معه في كافة أنحاء العالم. تفتقر الحوارات -في المسلسلات اليمنية في حالتنا- إلى كل شيء، لا سلاسة ولا هدف ولا معنى. يفترض بالحوار أن يساعد على كشف جوانب جديدة للقصة أو للشخصيات، أو أن يقود الأحداث من نقطة إلى أخرى، أو على أقل تقدير أن يكون مصاغاً بعقلانية تناسب السياق وتنوع الشخصيات، إلا أن كل هذا غائب. بالإمكان التخلص من نصف الحوارات دون أن يؤثر هذا على العمل الفني، بل وبالإمكان التخلص من شخصيات وأحداث بأكملها دون أن يشعر المشاهد بأن ثمة ما ينقصه أو تتأثر أحداث المسلسل. لا توجد وصفات جاهزة لكيف تكتب حواراً، تماماً كما لا توجد وصفات جاهزة لأي عمل فني، ولكن إن كان ثمة ما يجب أن يعمل عليه الكاتب اليوم، أكثر من غيره، فهو كيف يخوض حواراً بلسان شخصياته.

 

إلا أن كل هذا، كما أرى، لا يقترب في تأثيره على رداءة المسلسل اليمني من تأثير التوجس الذي يُقابل فيه النقد من الجميع، سواء كانوا منتجين للعمل الفني، أو متلقين له. يبدو -أولاً وقبل كل شيء- أن ثمة مجتمعاً فنياً يمنياً منغلقاً على نفسه، يتكون من شخصيات تعرف بعضها، وتتوسط لبعضها، وتمدح بعضها على تواضع ودناءة مستوى بعضها. هذا المجتمع الفني المنغلق -وإن حاول أن يدعي العكس بتواضع متكلف- يؤمن بتفوقه ويؤكد على ترفعه في كل مناسبة ممكنة عن النقد بمحاولة إظهار تقبله للنقد. يعيش الفنان اليمني -في غالب الأحوال- حالة انفصام عجيبة عن الواقع، يتخير البعض -مثلاً- منشورات النقد المبطن بالمديح لينشرها لمتابعيه مؤكداً أنه هو أيضاً بشري مثلهم، ومصمماً على أهمية النقد في العملية الفنية. الحقيقة هي أن كل ما كتبته إلى الآن كان بإمكان أحدهم أن يكتب ما يطابقه، بل أؤمن أننا جميعاً مقتنعون بالأفكار الأساسية ذاتها، فأنا لا أخترع مبادئ جديدة هنا، وما أقوله بسيط ويعرفه الجميع، إلا أن التنظير يختلف عن الفعل، ومن المخزي أن يعيش الفنان غير آبه بقيمة النقد، وموزعاً اتهامات الحقد والجهل على النقاد، سراً وعلانية، ومنزوياً في برج عاجي تحميه فيه تهيؤاته من هشاشة قلبه.

 

لا يتحمل الكتاب هنا كل العبء بالطبع، بل لعلهم بدورهم ضحايا لغياب الحضور الدائم والصارم للعملية النقدية. تابعت ردود الأفعال على مختلف المسلسلات اليمنية، ولم تخرج في غالبها عن اثنين؛ مديح يرتقي بالعمل إلى مصاف المقدس، وحملات تشويه وتحقير وتكفير وتنفير، إلا ما ندر. لا ألوم المشاهد البسيط على ردة فعله في نهاية الأمر، فالمسلسلات تخاطب عاطفته، وهو بدوره سيرد بعاطفته، سلباً وإيجابياً. من أعنيهم بكلامي هذا هم المثقفون، إما المتغيبون عن المشهد النقدي تماماً، لأسباب بعضها أوجه من غيره، أو أولئك الذين فقدوا البوصلة النقدية تماماً وانضموا بدورهم إلى حشود التطبيل والتمجيد. كما ذكرت سابقاً، يبدو الأمر وكأن ثمة مجتمعاً منغلقاً على نفسه يمتدح أفراده بعضهم، فقط لمشاركتهم في هذا العمل أو ذاك، في انعكاس منفر ومتصنع لثقافة المجاملات التي تفرض سطوتها على المجتمع.

 

أكرر هنا ما ذكرته سابقاً، لا أعني هنا أعمالاً دون غيرها، بل المشهد الفني كله. المسلسلات التي تحضر في ذهن القارئ أثناء القراءة لا تعدو كونها إسقاطاً للنص على ما يعرفه هو، وهو إسقاط صحيح غالباً، خصوصاً إذا ما استفز صاحبه. الفن تجربة في نهاية المطاف، ونحن لا نزال في بدايات التجربة اليمنية، وأكثر من نحتاج إليه هو السقوط. من لا يسقط لا يعرف كيف ينهض، والوهم الذي يعيشه الوسط الفني وسط حالة انتشاء بسيول المديح لن يصل بأصحابه ولا بالفن اليمني إلى أي مكان. يتطلب الأمر تمسكاً بإتقان الأساسيات من جهة الفنان، ونقداً دائماً ومطالبة بالأفضل -والأفضل فحسب- من جهة المتلقي، ما عدا هذا فبالإمكان تأجيله. بإمكاننا مقارنة أنفسنا بأنفسنا والاكتفاء بخطواتنا القزمة في عالم متسارع، وبإمكاننا أيضاً أن ننظر بعيداً، أن نحلم، وأن نرفع من سقف طموحاتنا، ومعاييرنا، ومن قيمة ذواتنا التي تنعكس في احترامنا لها. الفن الراقي احترام البشري لذاته حين يصنع، وللمتلقي حين يستمتع به، ومن هذه القيمة العالية للذات تنطلق التجربة الفنية الناجحة، حتى وإن تعثرت.


هشام المهدي