عن تغريبة القافر وروايات أخرى

 عدت مؤخراً إلى الرواية العربية، مر عليّ -متأخراً الحقيقة- خبر فوز "تغريبة القافر" بالبوكر العربية، وتساءلت عما يعنيه أن يفوز أديب بجائزة، وما يعنيه أكثر أن يكون عمانياً، شبه منسي في خريطة الأخبار العربية، وبملامح مبهمة بدأت تتكشف لي -بتمهل شديد- في الأشهر الماضية. زرت موقع الجائزة واطلعت على قوائمها الطويلة والقصيرة، كنت قد قرأت روايات فائزة كـ "موت صغير" لمحمد حسن علوان، و"فرانكشتاين في بغداد" لأحمد سعداوي، كما و"بائع الكتب" لسعد محمد رحيم، وعرفت روايات استهجنت تواجدها في قائمة من هذا النوع، وانتهى الأمر بي بين عشرات الحكايات الجديدة. تخيّرت قائمة مررت على ستة كتب فيها حتى الآن، لم أنهِ إلا ثلاثة وتركت البقية عالقين في منتصف السرد، ما عدت أدري أفيّ أنا الخلل، أم في خواء ما يقوله الآخرون؟


"القندس" لمحمد حسن علوان


لعلوان أسلوب جذاب في السرد، عرفته سابقاً في موت صغير، واستمتعت به مجدداً هنا. أسلوبه بسيط نسبياً، كثير الكلام والوصف، ولكنه لا يبالغ كثيراً. روايته هذه سردية وصفية إلى حد كبير، لا تدفعها حبكة ولا تشغلها أحداث وحوارات مطولة كما هو الحال مع غيرها، إلا أن هذا ليس بالإشكالي إطلاقاً؛ طالما هو متمكن من السرد، فليقل ما يحلو له، والحقيقة هي أنني لم أقدر إلا أن أرافقه إلى النهاية. تكمن الإشكالية الحقيقية في جانب واحد من الرواية كان العمل ليكتمل دونها، تحديداً مغامرات غالب مع البعيدة غادة. كان هذا الجزء من الرواية بارداً، مملاً، سخيفاً أحياناً، ومبالغاً فيه أحياناً أخرى. لم يتمكن علوان من أن يقول لي شيئاً وهو يمركز روايته حول كل ذاك الحشو، بينما كان في بقية الفصول يقدم لنا ما أجاده للغاية، أي الغوص عميقاً في خبايا المجتمع السعودي ذاك، وديناميكيات عائلة متفككة كتلك، رأيت فيها من أعرفهم، وشعرت لوهلة بأن الحياة التي عرفتها انقلبت فكاهة يلوكها قندس علوان. كنت أتمنى أن أقرأ عن عائلته تلك مطولاً، عن تاريخها، تفاصيل علاقاتها ببعضها، وما حصل بعد النهاية. لم أكن لأمانع رواية على نمط مائة عام من العزلة، عائلات وأجيال، وأساطير تتشكل، سدود تبنى على ضفاف الرياض، وأخرى تهدم، ولكن الكاتب لم يفعل أياً من هذا. أدرك تماماً أنني أتعدى حدودي متمادياً في خيالات الكاتب وإبداعه الفني، ولكنني لم أكف عن التمني إلى السطر الأخير.


"حرب الكلب الثانية" لإبراهيم نصر الله


أدرك سطوع الهالة حول إبراهيم نصر الله، إلا أنني لم أطق الرواية منذ الصفحات الأولى، وبطريقة ما أجبرت نفسي على المواصلة. كنت أؤمل أن أجد شيئاً آخر، أن أصل إلى حرب الكلب الثانية، أو أتفهم العالم الذي مر بحرب الكلب الأولى أساساً، ولكنني عدت من منتصف الرواية خائباً، ولم تطواعني نفسي أن أكمل. يكتب نصر الله كما كتب قبله عن عوالم ديستوبية سوداوية (حرفياً في هذا السياق)، ويقع كما وقع غيره في ذات الإشكاليات، أي إغراء المستقبل، وفخ الفلسفة، وتيه الحدث. ما أعنيه هو أن الكتاب بعمومهم في هذا النسق الأدبي يميلون إلى محاولة وصف العالم المستقبلي الذي تجري فيه أحداث رواياتهم، ويتحول الأمر في مرحلة ما إلى سباق خيال سطحي للغاية، يفرد فيه كلٌّ عضلاته في غرائبية العالم المتشكل بين أيديهم، وفي هذه الرواية فحتى فهذا الخيال لم يقدم ما يبهر. من ناحية أخرى، فهكذا روايات تنشغل كثيراً بمحاولة تقديم أفكار أو معضلات فلسفية ما، وتجد في الحدود القصوى للعوالم الديستوبية حقل تجارب مذهل لتطرفاتها الفكرية، وكل هذا يشعرني بالملل، فحين أريد أن أتعامل مع الفلسفة فآخر شيء أفكر فيه هو الرواية. أما تيه الحدث فهو أكثر ما ميز رواية كان بإمكانها على أقل تقدير أن تستغل جموح خيالها لتلقط جانباً مختلفاً من ذاك المجتمع، أو حتى من حياة بطلها ذاته، ولكنها لم تفعل، كل ما حصل هو أنها أمضت نصف رواية في التخبط في غراميات تائهة، ولم يكن يجدر بها أن تفعل، ولم يكن يجدر بي أن أقرأ.


"الباب المفتوح" لعبد الرحمن منيف


بخلاف الكتب الأخرى هنا فهذه مجموعة قصصية كانت من أوائل ما دونه عبد الرحمن منيف، أي قبل أي من رواياته، إلا أنها نشرت في فترة متأخرة للغاية، حتى أن المنية حالت بين المؤلف وكتابة مقدمة للمجموعة. انصرفت إلى عبدالرحمن منيف كاستراحة بعد كل الروايات هنا، والحقيقة هي أنني قرأت مجموعتين له، لا واحدة، تحمل الأخرى عنوان "أسماء مستعارة"، ولكنها كانت أقصر، ودون المستوى، ولم تشبه منيف في أي شيء -رغم أن كليهما لم يفصلهما الزمن الطويل- ولهذا أتجاهلها عمداً هنا. يصعب -بالطبع- الحديث عن المجموعات القصصية مقارنة بالروايات، إلا أن التجربة التي تقدمها القصص هنا، بكليتها، مميزة للغاية، خصوصاً حين يكتب رجل كعبد الرحمن. استمتعت للغاية بالقراءة هنا، واطلعت على ما تعنيه مراحل تطور الكاتب، إذ يظهر الطيف الشاب في البدايات، قبل أن يشكله الزمن، والخبرة، والحكمة.


"بريد الليل" لهدى بركات


رواية أخرى لم أنهها، ولكن هذه المرة لأنها أشد مللاً وأكثر رتابة من أن تقرأ. لم أعرف لهدى بركات عملاً أخرى، وأردت أن أجرب أحد أكثر أعمالها نجاحاً. رواية على شكل رسائل متناثرة جذبتني فكرتها، وأعجبني قصرها كذلك. كان يفترض بي أن أنهيها في يوم، ولكنني توقفت سريعاً. بعض الروايات تكرر غيرها، تقدم لك أكثر السيناريوهات رتابة وتواضعاً، وبالكاد تضيف شيئاً من عندها، اللهم إلا تلميحات لمحليّة هذه النسخة من القصة. الحقيقة هي أن الحب طريق سريع لقلوب القراء (والمشاهدين كذلك) ولكنه أيضاً أكثر الطرق خداعاً. الروايات التي تجيد التعامل مع الحب تخرج عظيمة للغاية، أما الباقي فإعادة إنتاج لترسبات خيالات المراهقة.


"لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة" لخالد خليفة


صحيح أنني توقفت هنا، ولكنها الرواية الوحيدة التي أفكر أن أعود إليها في يوم ما. لخالد سرد ماتع وجذاب، خطفني مع الكلمات الأولى، ودفعني إلى التفكير في البحث عن أعمال أخرى له، مختلفة المحتوى، لكن بذات الأسلوب. لا أفعل هذا عادة، ليس مع الجميع، ولكنه كان متمكناً من السرد، وله شهادتي هنا. الإشكالية الحقيقية تكمن في ما خلف السرد؛ في القصة التي لجأ صاحبها إلى كل مبالغة ممكنة في محاولة يائسة، وغير ضرورية إطلاقاً، لإكساب الحدث تشويقاً وجاذبية. كل الشخصيات في روايته خلقت متطرفة، وكل تطرف في اتجاه، وكل اتجاه يحاول أن يسحب السرد إليه، في تنازع منفر بكل صراحة. لا أفهم حقيقة ما هي مشكلة الكاتب العربي الذي يمتلك كل شيء، ويلجأ إلى ما لا يخصه، ولا يشبهه. ليس الأمر وأن الكاتب العربي لا يرى ما يتفرد به، فهو يتناوله بالفعل بإطالة أو بتقصير، إلا أنه لا يعطيه قيمته، وينتهي بهذا مفرغاً من أجمل ما فيه، وأكثر ما يجيده.


"تغريبة القافر" لزهران القاسمي


هذه الرواية مختلفة تماماً عن سابقيها، بكل ما للكلمة من معنى. بخلاف علوان وخليفة يفتقد القاسمي إلى سحر السرد، فالسرد في نهاية الأمر موهبة، والمواهب المصقولة تفوق التدريب. خانت الزهراني موهبته في أكثر من موضع، إلا أنه كاتب مثابر، ويعرف تماماً من يكون، وكيف يكتب الرواية. كانت "تغريبة القافر" رواية عربية، وعربية جداً. كانت عمانية، وعمانية إلى النخاع، وبكل هذا فقد كانت مميزة. لم أتوقع أن أكتب عنها بهذه الطريقة في البدايات، ولكنني أفعل الآن. من يعرف "مدن الملح" لعبد الرحمن منيف، سيرى شيئاً فيها في تغريبة القافر، ليس الأمر بالاستنساخ ولا التشابه، بل بالمحلية، بالقدرة على توظيف الطبيعة والزمن والمعتقدات واللغة، وبالقدرة على تفكيك الإنسان، وتقديمه كما هو، كما يجب أن يكون في الواقع، وفي الرواية. الحقيقة هي أنني وجدت نفسي أغرق في منتصف الرواية، ثمة ارتباط عجيب وجوهري بالماء في كل شيء فيها، كان الماء يسيل من كل صفحة، ينضح من كل مقلتين، ويتفجر في الهواء العازل الذي فصلني عن بقية ركاب القطار في طريقي من وإلى العمل. كنت أشعر بالماء يغمرني بحق. لم أخبر شعوراً كهذا قبلاً، ولم يتمكن الكثيرون من إدماجي في روح خيالاتهم كما فعل الزهراني هنا. ربما لهذا أيضاً تذكرت عبدالرحمن منيف؛ وجدت نفسي وقتها في الصحراء، وشعرت بالحنين إليها رغم أنني لم أرها يوماً. التجربة التي تخوضها في رواية متقنة تجربة حقيقية جداً، وأكاد أجزم بأن بمقدور المرء أن يكتب عنها وكأنه خاضها بنفسه. أحببت أيضاً تعرفي بشكل طفيف على بعض من اللهجة العمانية، استشعرت فيها الشبه باليمني أحياناً، ولم أمانع -كما ذكرت في سياق آخر- أني لم أفهم شذرات منها أحياناً أخرى. هذا الإمعان في المحلية وخصوصية التجربة البشرية هو ما يكسبها رونقها في نهاية الأمر، صادقة من الأعماق، وتنساب دون إسفاف في البلاغة، مكتفية بأن تقول شيئاً فقط حين يجدر بها أن تقوله. لا يعني كل هذا أن الرواية مثالية إطلاقاً، النهاية مثلاً لم تكن متقنة، وشعرت بتخبط كاتبها فيها بخلاف الثبات الذي كان رتمه في جميع الرواية. إلا أنها كانت تجربة تستحق القراءة. بعض الروايات تستحق الجوائز والترشيحات بالفعل، بل ومن أجلها يجب أن تخلق الجوائز أصلاً، وإن كانت ضريبة هذا التكريم أن تحصل روايات أدنى مستوى على شهرة لا تستحقها، فليكن، على الأقل بإمكاننا الاستمتاع بتغريبة القافر، بالمغامرة العربية العمانية التي باحت برونقها وخفتت بعيداً في إحدى محطات ميونخ، وهأنذا أحاول أن أمسك بطيفها، مشتتاً بأربع روايات أخرى قرأتها قبلها وبعدها، دون أن يغير هذا من انطباعي عنها.