ورثت اضطرابي

ورثت اضطراب الساعات الكثيرة في منزلنا.ـ


ورثت صوراً كثيرة للفتيان الذين ضربوا بعد المدرسة، وأمنيات إخوتي بعودة والدي بعد الغياب، وورثت شغفاً بماجد والعربي الصغير، وتعلقاً كبيراً بفراغ الكأس الذي تضع فيه أمي مصروف عائلتنا اليومي.ـ


ورثت خوفاً من الشرطة، كلما مررت من أمامهم مددت يدي إلى جيبي بحثاً عن "حق القات"، وهربت بعيني إلى كومة الأشباح العابرة التي يعرفها الشرطي، إذ ربما يخالني واحداً منهم ولا يضطر إلى البحث في قلبي عن تهمة الارتجاف، وربما يخطئ عيني، فلا يرى الاضطراب الأول، والقلق القديم، وربما لن يعرف أنني ورثت شعوراً بالذنب كلما تحممت أكثر من مرة في الأسبوع، لأبحث بعدها في كأس والدتي عما يكفي لملئ خزان الماء.ـ


...ـ



ورثت حذراً زائداً، لا أمر من شارع دون أن أتفقد السائق المتهور القادم من خلف الركن، ولا أغادر الرصيف إلا بحثاً عن الوصول، لاحظ الآخرون حذري، وسبقتهم به إلى ما وراء الحدود.

ورثت لقماً صغيرة، هي كل ما تركته لي والدتي من طعامها، أمد يدي إلى المائدة، وأراقب كم بقي للآخرين، حتى حين أكون وحيداً، وأقطع خبزة بحجم إصبعي ليكفي الطبق إخوتي النائمين في بلاد بعيدة.ـ


ورثت الغد، إذ كان هو المفر الوحيد من الآن والأمس والذاكرة المعطوبة.ـ


ورثت قاموساً وحيداً عرفت بعده أن اللغة هي كل ما أملك، وبسببه اخترعت الشعر، شعري أنا وصديقيّ، اعتزلنا لدقائق في طاولتنا الخشبية، وقلنا كل شيء.ـ


ورثت ندبة من طفولتي، أنسى أحياناً في أي جانب من وجهي هي، وأتفقدها في المرآة حتى أعرف نفسي، وأتفقد كل ما ورثته أملاً في ألا أكون فقدتني في لحظات النسيان الكثيرة، والطريق الذي علقت في منعطفاته صداقات حميمة، وإيمان مرتعش، وأغانٍ لم يعد يصلني إلا صداها في لحظات تجل.ـ



وورثت حر تهامة، كنا ننام على السقف، ونشارك البعوض السماء والدم والموت والهوية، وتمنينا لو بادلناها بالدم قدرة على الطيران، ربما إلى البلاد البعيدة التي عبرتُ إليها لاحقاً، وربما إلى جحيم آخر لا ينتظر الأطفال فيه ساعات الكهرباء النادرة.ـ


...ـ


ورثت غضباً عارماً، وثورة تشبهنا، كلما قالت أريد، قيل اصمتي، وورثت هذه الأسطر الأخيرة، والقدرة على إنهاء كلامي دون أجد في الثرثرة الطويلة أي معنى أو خلاص من الألم الذي هو خلاصة الصمت، حتى أجدني أنهي كلامي بكلمات عشوائية وارتجاف خفيف، خوف... اضطراب... تهامة... أمي... شرطة... قاموس... كأس... بعوض...