فرزة عصر

في نهاية سوق "عَصِر" في صنعاء تقع فرزة باصات شبه عاطلة عن العمل، تتجه الباصات إلى "الصُبَاحة" خلف الجبال، ولم يكن الكثيرون يرتادونها -بطبيعة الحال- في رحلة كتلك إلى خارج المدينة، فقط بعض العمال المغادرين في ساعات الصباح الأولى، أو سكان الصباحة الباحثين عن حياة ما في صنعاء. وبين كل هؤلاء أجلس أنا، في المقعد الأخير غالباً، بزيي المدرسي، ومائة ريال أمسكها بكلتا يدي في انتظار قدوم المحاسب، وساعتي التي كنت أتأملها كثيراً، إذ لا تنطلق الباصات إلا حين تمتلئ، وحين ينتهي السائقون من عراكهم اليومي حول من عليه الدور في تحصيل الأجرة.ـ

.

هكذا كان طريقي إلى المدرسة، ينظر إلي العمّال بفضول أحياناً، واشمئزاز أحياناً أخرى، ويسألني أحدهم مرة كل يوم عن المدرسة التركية، وعن الأتراك بالطبع، كنت بالنسبة لهم قادماً من عالم آخر، ولم أمل يوماً من أشرح لهم أنني أشبههم أكثر مما يظنون، كنت قد حصلت على منحة هناك، وبالكاد أتنقل بين ثلاث باصات للوصول إلى المدرسة في الوقت المناسب، وأحتفظ بمائة ريال أخرى تعطيني والدتي لأسبوع كامل دون أن أصرفها على شيء، ليودعني بعضهم في نهاية الأمر بكلمات خفيفة، ويكتفي الغالبية بنظرات صامتة إلى الولد الذي يدخل من بوابة المدرسة الكبيرة إلى عالم لن يعرفوا يوماً كيف هو.ـ

.

في باصات صنعاء فضول وضغط كبير، ينفجر أحياناً إلى عراك سياسي، ويخرج أحياناً في صورة رجل يصر على تدخين سيجارته قبل الصعود إلى الباص، أو صراخ الرجال حين لا يسمع السائق نغمة رقيقة لإحداهن: على جنب. وفي باصات صنعاء قصص كثيرة، يلعن رجل قادم من ريف ذمار دوائر الحكومة التي أعادته خائباً للأسبوع الثالث، وتقلق امرأة في الهاتف بصوت عالٍ على قريبها في المستشفى، يقف رجال على حافة الباص، وتجلس نساء في صف كراس اتفق الجميع، طواعية، على أحقيتهن به، وأسقط أنا على الإسفلت ممزقاً ملابسي في سوء تفاهم بيني وبين سائق الباص..ـ

.

ولكنني بعيد عن كل هذا الآن، أرتاد القطارات غالباً، وبالكاد أرى السائق/ة، أو أسمع همساً للركاب، ولا تعود إلي الذكريات إلا حين تصعد يمنية القطار وتنتفض من الرعب، تهرب أحياناً إلى الجانب البعيد، وتجلس أحياناً صامتة في مكانها إذ ربما أخطئها كما تفعل الوحوش في الأفلام. هذا الخوف والقلق هو الطبيعي، وفيه رائحة الوطن البعيد، وأتمنى أحياناً أن أنظر في عيني إحدى تلك النساء وأقول: لا بأس. ولكنني أفضل الصمت، والنزول في أقرب محطة ممكنة. ربما يهدأ الخوف قليلاً، وتنسى عبوري خلال القطار.ـ

.

هذا الخوف هو الطبيعي، خصوصاً حين يتفاقم قرب نقاط التفتيش، ويرفع مراهق ما سلاحه في وجه سائق الباص، ويمد آخر يده لإيقاف الموسيقى في الباص.ـ

هذا الخوف هو الطبيعي، وهو -ربما- كل ما يبقى من القصص الكثيرة التي تسيل من الباصات الممتلئة، والباصات الفارغة، والباصات التي تسابق بعضها لاصطياد الراكب الواقف تحت جسر الستين، حيث اعتدت أن أقف في الصباح، ألوح بيدي للعابرين، إذ ربما أركب باصاً آخر، وأسمع قصصاً أخرى، ويقول الجندي الذي جلس بجانبي بعد هروبه من المعسكر: يوماً ما ستفهم يا بني. وأظنني فهمت الآن.ـ