سأعود -يوماً-

سأعود -يوماً- إلى الجبال البعيدة، إلى همهمات الفتيات اللواتي يجمعن دموع الشمس المنثورة في الحقول، إلى أن أكون أغنية، أو قصيدة، أو أمنية، يجد فيّ العابرون ما يشبههم، أنفسهم التائهة ربما، وأحلامهم التي لا يسعها الوقت، ويطمئنون إلى الخيال. سأعود بعد أن ينتهي كل شيء، وتنساب صلواتي القديمة كلها إلى النسيان، كلها باستثناء تلك التي خصصتها للنساء اللواتي يروّضن الليل، والرجال الذي يعرفون الله في الشعر والنغمة الشاردة...


لم تكن الكتابة أحجية، بل كنت أنا، وكان الوجود، ولهذا انغمست في الخيال، في السريالية التي مكنتني من تجاوز النهايات المغلقة، والأساطير التي تسجن أرواح الأطفال الذين صدقوها، ولهذا أنهكت نفسي في ألا أكون -أنا- مركز الوجود، وحين وجدت الجميلات ينصرفن عني "اللامركزي" إلى الرجال الذين يبيعونهن المستقبل، كتبت لهن كلمات الوداع، وانتقمت منهن بأن خلقتهن مشوهات، بمحادثات عرجاء، وأسماء لا تعنيهن، ولا تراقص الريح مثل أسمائهن التي أحب.


وهأنذا أقرأ التاريخ، كما لو كانت الجبال التي هاجرت إلى سقف منزلنا -في لحظة خوف- غير بائسة كفاية. وهأنذا أجدني مغرماً بالحيوات التي لم أعرفها، والحكايات التي تعفنت على أصدائها أرواح الجدات، والتواريخ التي تسيل من ذاكرتي دون أن ألتقط أياً منها في تشتتي الدائم. لطالما كنت مشتتاً، وكلما كتبت كلمة وجدتني قد جبت الوجود بحثاً عن رحيلها إلي، حتى أظنني أقتفي ظلها على أجنحة الوقت إلى المرأة التي صادفت وجوداً جديداً، وتركت دهشتها تتبعثر معه عابرة المعقول إليّ، وربما لو شاهدتها وهي تشكل كلماتي قبلي لوقعت مع الكلمة إلى أحلام الآخرين، أو وقعت معها في الصمت الذي هو الحب، والحب الذي هو الرحيل....


إلا أنني، وفي نهاية الأمر، أعود للانشغال بما هو عادي، بالرسائل التي تستثقل المعنى، والتوق إلى الصباحات الكسولة، ومستقبل اللقمة القادمة، حتى أتوهم أحياناً أنني لن أعود، ولو كشتائم يطلقها مخبول ما في أسواق تهامة، فأعود إلى صلواتي الأنانية، وكلماتي التي أكون فيها المركز، وأحب فيها كل النساء كما يحببني.

وبين الوهم والأمنية، هاأنذا أتوق إلى الغد، وأكتب للغد، وأعمل للغد، فالغد وعد المحبين، والغيب الممكن، والسد الأخير حين يجرفنا العدم...