مملة هي برلين

بائسة قليلاً فكرة أن تتوجه إلى الأفق دون أن يواجهك بحر أو جبل، برلين مدينة مستوية للغاية، ومعزولة في الداخل الألماني، ينقصها الكثير من النظام، والتاريخ، والمال، ولكنها تفتقد -أكثر من كل شيء آخر- غموض ما خلف الأفق، من هنا يبدو أن العالم ينتهي عند أطراف السماء، ومن هنا يصعب سماع النغم المتردد من الماضي، نغم الأرض المتدافعة، ونغم الأجداد المتعلقين بالعظيمَين، الجبل والبحر.


ليس الأمر وكأنني أشتكي، إطلاقاً، ولهذا قلت أنها فكرة بائسة قليلاً فقط، كل ما في الأمر هو أنني أشعر بطيف حنين، لم أر البحر منذ أعوام، وأجد صعوبة في التعلق بجبال بافاريا، حيث أعيش. لاحظت مؤخراً نمطاً ارتدادياً في الموسيقى اليمنية ربما يكون ما ذكرني بكل هذا فجأة، أعني أنه بالإمكان ملاحظة أن الآلات تداعب بعضها، وتتبادل النوتات والأدوار، يتميز أبو أصيل بهذا النمط أكثر من غيره، هل هذا ما يعنيه الموسيقيون بالمقام والجواب؟


لا أعلم، لكنني أشعر أنه الشيء ذاته، على الأقل كنت قد شعرت به في الجبال مراراً، حين تباغتنا طائرة بقذيفة يباغتنا كل جبل بارتعاد خافت، يتبادل الجبل والبشري حمل التاريخ الثقيل واللحظة الجريحة، وتعكس البيوت ظلال بعضها على القمم المختلفة، ومن يدري، ربما أتوهم فقط، ربما أرى في القمريات أشياء مختلفة، لا شمساً واحدة، ولا جبلاً واحداً، ولا أنا واحداً يكتفي بالتدوين، دون أن يكتب شيئاً.


على أي حال، لا يبدو أن الناس هنا يبالون، ليس وكأن الجبال توفر فرص عمل، أو تستطيع حمايتهم من تعقيدات الضرائب، وليس وكأن الأمطار ستأخذ إجازة مدفوعة إلى جزر الكاريبي. الجبال هنا ستكون عديمة الجدوى، وغير قادرة على إعطاء المدينة موسيقى بإمكان العابرين التعرف عليها بها. الأمر مختلف في المدن التي عرفتها سابقاً، هنا لا شيء يستحق أن تلقي عليه نظرة مرتين، وهنا لا غروب يزين الأفق، ولا شفق يموج بالمدينة المكتظة بالببسطاء، برلين مدينة مملة للغاية، أظنني وجدت الكلمة التي أبحث عنها بعد كل هذا التخبط!


برلين مدينة مملة إلى أبعد حد، كبيرة أكثر مما يجب، ومزاجية  أكثر مما يُحتمل، ولكنها لسبب ما تجذب الفنانين إليها، ربما يفسر هذا لم فنهم بارد، وبالإمكان اختصاره في نظرة واحدة، الأمر مختلف تماماً في النمسا -على سبيل المثال- أتفهم تماماً كيف ولد بيتهوفن وموزارت هناك، ربما يفهمني من زار النمسا أكثر، ولكن هنا، في برلين، وما حول برلين من مدن مملة، من المنطقي تماماً أن يولد ماركس وآينشتاين، وأن يجد المرء في برودة الآلة مخرجاً من انعدام الغموض خلف الأفق، ففي نهاية اليوم، لا جبال هنا، ولا بحر، ولا شيء ينظر إليه المقيمون باستثناء البناء المجاور، والكثير من الرمادي الذي لا تسعه السماء.