جدي والسوق

حين ذهبت مع جدي -رحمه الله- إلى السوق الأسبوعي في باجل لأول مرة، لم أكن أفهم كيف عرف الجميع هناك أنني قادم من صنعاء، ولكن كثرة الأسئلة التي طرحها العابرون على جدي عن الطفل القادم من صنعاء لم تلهني عن الجلبة المحيطة. كنت أستيقظ قرابة السادسة صباحاً لأرى جدتي تطعم الخراف خبزاً مجففاً وعلفاً، وجدي يستعد للذهاب لبسطته في السوق. لم أفكر يوماً في تجاوز عتبة المشاهد من بعيدة، يكفيني أن أتعامل مع روتينهما الصباحي حين نزورهما لأنسى وحدتي في الصباح، يجلس جدي وأمامه علبة الزبادي و"البسباس الحيمي" وأكتفي أنا بالحلاوة الطحينية، وينغمس كلانا في الصمت الذي يعم البيت الهادئ، لا ينتشلنا منه إلا مسحنا للعرق المتصبب على وجوهنا.


كان السوق مهيباً حقيقة، مختلفاً عن أسواق صنعاء التي عرفتها في مراحل متأخرة. حين أفكر في الأمر اليوم، لا يمكنني إلا أن أشكر جدي لأنه دعاني للخروج معه يومها. لا أستطيع أن أقول أنني أتذكر كل شيء تماماً، مر وقت طويل، ولا تحضرني إلا صور متقاطعة ومشاهد مشوشة؛ رجال يجرّون أغنامهم بسيقانها الأمامية، امرأة تساوم عدة باعة في السعر، الأبقار لم تكن بعيدة كذلك، ولا الأعلاف المكدسة في كل مكان. في أعماق السوق تكثر البسطات، كل شيء يحضر في مكان واحد، والضجيج يتحد مع العرق في الوجوه المستغرقة في الشراء، توقفنا عند أكثر من بسطة، وانتهينا أخيراً إلى بسطة جدي...


لا أعلم تماماً ماذا كان يبيع هناك، كل ما أتذكره هو النحل المتردد على عناقيد العنب، أتفاداها مرعوباً وأراقبها بحذر، تراودني الآن ابتسامة خفيفة الوقع، ربما كان خوفي ما وشى بي، الفتى ذو الثياب النظيفة والحذاء الجديد والبشرة الأقل سمرة كان واضحاً أنه من صنعاء، وأنه لم ينتم إلى باجل، إلى البلدة التي ولد فيها، ولكن أكثر ما وشى به قد يكون خوفه، الخوف الذي تخلقه المدينة، والبيت...


تزورني منذ البارحة عديد الذكريات عن باجل، توفي جدي لاحقاً جدتي إلى ربهما، ولم يبق لي من تلك البلدة إلا الذكريات المتفرقة التي أنازع لكي لا تتلاشى. وهي تفعل، شئت أم لم أشأ. هذا ما يفعله الغياب، تتناثر الذكريات بطول الطريق الطويل إلى الغد، ولا شيء يجمعها غير الكتابة، ولهذا -ربما- أكتب الآن، لكي لا أنسى، لأجد في هذه الأسطر كل عام ملجأ آخر للذكرى، لمن أكون...


كل ما يحضرني الآن صور متفرقة، جلوسي داخل محل حلاقة قديم، لعبي بالأتاري في محل ألعاب، العشش التي رأيتها في زيارتي الأخيرة، أهل تهامة الذين لم أعرفهم عن قرب، وادي سردد، الجامع المجاور للبيت، العواصف الترابية، توسلنا للعب الكرة وقت الظهيرة دون جدوى، القطط المحتشدة أمام نافذة المطبخ وخوفي منها، دفننا لميزان قديم تحت الأرض، كل هذا يمر بسرعة من أمامي الآن، ويحرمني السرد من أقول كل شيء، ولهذا أكتفي بأن أتمنى ذكريات أكثر، وعمراً أطول أكتب فيه.