رحلة وداع

أتخبط في لحظات الوداع، لم أتعلم يوماً كيف أتعامل مع حنيني الشديد، للعائلة، للغرباء العابرين، للموسيقى، للطريقة التي تلفح بها الشمس جبهتي، للمساحات التي ركضت فيها، وتلك التي استلقيت عليها، أشعر بحنين دائم لكل شيء، وامتداد الذات إلى البعيد، حتى إلى شخصيات الروايات ودراما الأنمي، كلما أنهي إحداها، أندم على استعجال الفراق، ربما لو كنت قرأت كلمة أقل كل يوم، وربما لو لم أنغمس في المشاهد كلها في ليلتين، ولا أجد بداً من حبس الدموع في نهاية الأمر. 

أشعر بوخز في قلبي في كل مرة، كما لو كان امتداده الجديد في الآخر يقربه من التمزق أكثر، وكلما استوعب شخصيات لم يتوقعها، وموسيقى جديدة لم يلق لها بالاً، خلق في الوقت ذاته فراغاً يحيط بها كلها، هذا الفراغ هو ما أحتفظ به في باقي ثواني حياتي، أعبر خلاله من ذكرى إلى ذكرى، وأغرق فيه، أغرق فيه دون أي رغبة في انتشال ذاتي، إذ لا أريد أن تموت ذكرى ما، وإن كانت أن مستحيلة الوصول. يخيفني النسيان، ربما هو خوفي من أن ينساني الآخرون، من أن أختفي غداً دون أن يلاحظ أحد، ودون أن يتوقف العالم قليلاً ليسأل نفسه عن معنى وجودي، ربما هو تمسكي بالبقاء -ولو كذكرى- ما يدفعني إلى الكتابة، وربما لا تكون الكتابة في نهاية الأمر سوى سيلان الذكريات الكثيرة على الورق وشاشات الأجهزة الإلكترونية.


هل يشبهني في هذا الكتاب الآخرون؟ هل لجميعهم امتداد روحي يدفعهم إلى الكتابة عن غيرهم؟ هل لهذا بمقدورهم أن يعبروا عن ألم أرملة في العشرين وانتفاضة محارب في خندق محاصر وما يعنيه أن تنكسر طفلاً في طلاق والديك؟ أتمنى أن يكون كل هذا حقيقياً، وأتمنى -أكثر من كل شيء- أن أجد فيهم تجاوزاً لهذا التخبط والحنين، لا أعرف ما إن كان أحد قادراً على تعلم كيفية التعامل مع الوداع، أو اعتياده حتى، ربما يحتاج المرء الكثير منه لاكتساب مناعة ما، أو الابتسام على الأقل، ولكنني في رحلة وداع طويلة، ولا نهاية في الأفق، ولست مستعداً لأن أخسر قلبي كله يوماً ما، فليعلمني أحدكم كيف لكل هذا الوجع أن يهدأ! وكيف بإمكاني أن أتهادى في الوجوه المتناثرة في أركان الروح، والموسيقى التي تموج بها إلي، دون أن أفقد تماسكي، وأسقط؟


سأخسر قلبي يوماً ما، أدرك هذا تماماً، لكنني لست مستعداً بالطبع، لم أكن مستعداً يوماً لأي شيء، حتى حين أعرف تماماً حتمية وقوعه، وزمانه. أنغمس في التجاهل حتى يباغتني تلاشي الواقع أمام عيني، وأنكفئ على نفسي في اتساع القلب ذاته الذي عرفته مذ كنت طفلاً، أعرفه أكثر من تفاصيل يدي حتى، ضيق صدري به ورغبة أحشائي في الاندفاع إلى الخارج، انحباس الروح في الحلق، والدموع التي تقاوم نفسها، إذ تدرك تماماً هي الأخرى أن لا عودة بعد فراق، والأهم من كل هذا تلاشي كل شيء آخر حولي؛ الكلمات الموجهة إلي والمارة من خلالي، الأضواء المتوقفة على حافة الجسد، وإحساسي بذاتي قبل أن أتعرف على الآخر، يتلاشى كل شيء ويبقى حنين صارخ في الداخل، لا يعرف كيف يخرج، ولا كيف يصمت، ولا كيف يقول شيئاً معقولاً، صراخ عبثي دائم يصاحبني في رحلتي الطويلة هذه، حتى صرت أعرف نفسي به، وأشعر بوحشة غيابه، وحشة غريبة هي تلك التي تدفعني إلى البحث عن فراق جديد في الرواية والأنمي، أو الحفر عميقاً للكشف عن وجوه اختفت لفترة، وموسيقى احتجزها صداها، ولا تعبر الفراغ الشاسع في قلبي وحدها، إذ قد لا تنجو، وقد يصمتها الخوف.


هل سأبكي في نهاية الأمر؟ لا أظنني سأفعل، لم أفعل يوماً، وإن كنت في أشد الاحتياج إلى ارتماء ما، وخلاص من أي نوع، حتى وإن عنى أن أترك حنيني يصرخ إلى الخارج، ويملأ غرفتي بعجزي الشديد، ولكنني لن أفعل، إذ لم أتعلم من كل هذا الوداع شيئاً سوى الانكفاء على الذات، واحتجاز كل شيء في الداخل، لا أعرف كيف أترك الأشياء تمر، والذكريات تمضي، والأيام تدفن في طينة النسيان، ليس الأمر أنني لم أحاول، ولكنني لا أستطيع، ففي كل شيء مررت عليه جزء من قلبي، وأنا لست مستعداً لخسارة قلبي، حتى وإن عنى هذا أن أنهار وأنا أحاول.