مجرد حافلة... مجرد ركاب

نعرف بعضنا البعض، هي حافلة واحدة في ذاك الجزء من الحي، وبشكل لم أعتده من غيرها في صنعاء، كانت دقيقة للغاية، دقيقة إلى الحد الذي بالإمكان ترتيب الصباح حولها، وجميع مرتاديها في ذاك الوقت دقيقون كذلك، ولهذا نعرف بعضنا البعض، نعرف أين يجلس الآخرون، ومتى وأين ينتظر كل واحد منا الحافلة القديمة، ولكن أياً منا لم يتجرأ يوماً على أن ينطق بكلمة واحدة، بالكاد ينطلق همس خفيف للشابة التي تحاول إنهاء مهاتفتها بسرعة، ولا يضطر أي منا لأن يصرخ: على جنب! كما نفعل عادة مع الباصات الأخرى التي تملأ المدينة، كنا جميعاً نتجه إلى جولة عصر، ومن هناك يملك كل منا حياة خاصة لا يعرف الآخرون عنها شيئاً. هذا غير معتاد في صنعاء.


لتلك الحافلة تحديداً حنين خاص، كانت بمثابة فقاعة هادئة تتفادى بنا ضجيج المدينة وعبثيتها، وكلما صعدت الترام المؤدي إلى حدود مركز المدينة -هنا في ميونخ- أو استقللت الحافلة لنصف ساعة إلى العيادة، شعرت بطيف تلك الحافلة يغمرني. هنا كذلك ثمة قدر من الدقة، أعرف متى سينطلق الترام الأول في يوم الأحد القادم عبر تطبيق في هاتفي قبلها بأسبوعين، وهنا كذلك أنغمس كالآخرين في صمت متبادل، ربما يكسره بعض المراهقين، أو عجوز بسمع ضعيف على الهاتف مع حفيدتها. وهنا كذلك ينظر كل منا إلى الآخر، أو ينظر الآخرون إلي أكثر مني إليهم، دون أن نقول شيء، أشعر أحياناً بعجوز تريد أن تسألني عن معنى الكلمات المكتوبة على قميصي، لا أحد يعرف أنها لدرويش سواي، ولكنها تتراجع وهي تهرب بعينيها كلما أشعرتها بأنني أعرف تماماً ماذا تريد.


لم يدم الأمر مع الحافلة الوحيدة في ذاك الجزء من السنينة طويلاً، ربما بضعة أشهر فقط، وانتهى الأمر بأزمات وقود، ووقوف طويل للحافلة مهجورة أمام الجامع الذي تنطلق منه، ولجوئنا نحن الركاب إلى التوزع على الباص الصغير، والمشي الطويل إلى شارع الستين، وصعود سيارات أو تسلق مؤخراتها. لا أعرف ما إن كانت قد عادت بعدها، ولكنها تركت فراغاً في الحي، فوضى كانت هي من تكسبها طابعاً اعتيادياً أكثر رتابة، ولهذا فكرت لأول مرة في إنشاء مواصلات على النظام الأوروبي، ذاك الذي أعرفه من الأفلام والكرتون، ولم أكن أعرف أنني بعدها بسنوات فقط سأقف وحيداً في ميدان ما وسط أنقرة في انتظار حافلة أعرف رقمها، ولا أعرف أي شيء آخر عن كيف تعمل، وأنني كنت سأشعر بذاك بالتيه لأول مرة، وسأتجنبه ما حييت.


الحقيقة أن نظام المواصلات في صنعاء بسيط للغاية، الموتورات قضية أخرى تحتاج نصاً منفرداً، ولا شيء آخر غير الباصات، لا قطارات ولا ترامات ولا سفن، ولكن الباصات الكثيرة هنا تكفي، بل إنها أكثر من احتياج الركاب حتى، بإمكانك الوقوف في أي مكان، الإشارة بيديك، وسيتوقف سائق ما،  سيتقاتل عليك أكثر من سائق في الفرزة، وستدفع أجرة موحدة، وما دمت تعرف محطتي البداية والنهاية فالباقي سهل. ضعت أكثر من مرة، وصعدت الباص الخطأ أحياناً، ونزلت في المكان الخطأ أحياناً أخرى، ولكنني لم أشعر بالتيه أبداً، كانت صنعاء بسيطة، بإمكاني أن أنظر إلى الجبال وأعرف -بطريقة ما- أنني هناك، أو بإمكاني أن أسأل عابراً دون مقدمات.


كل هذا تغير مذ تركت البلاد، ولهذا بدأت أفهم نظام المواصلات في كل مدينة قبل أن أذهب إليها حتى؛ أي القطارات أحتاج، من أين أشتري التذاكر، وكم تكلف، وتعلمت كيف أقرأ الخرائط، وأنسخها في ذهني مع كل المعالم التي أحتاجها: المحطة تقع شمال الكنيسة المركزية، المطعم جنوب غرب النهر، وأسماء الشوارع ثانوية أمام مواقعها من الخريطة، وتأقلمت بهذا بسرعة مع كل المدن التي كنت فيها، حتى تتعجب رفيقتي كيف عرفت أين يقع مطعم الشوارما من نظرة واحدة على الخريطة.


التيه يرعبني، العجز كذلك، ولهذا تملأ حياتي الكثير من التفاصيل التي تساعدني على إحكام قدر من السيطرة على تدافع الفوضى المحيطة، بدأ كل هذا حين صعدت تلك الحافلة لأول مرة، حين عرفت أخيراً كم هو جميل القليل من الهدوء والنظام، وحين دخلت فقاعة عائمة في شوارع صنعاء قادتني بعدها بسنوات إلى بلد نظامي حد الجنون. لن يعجب كل هذا النظام الكثيرين، لكن فيه من ريح الحافلة التي تقلع من أمام جامع بسيط في السنينة.