عن جدتي وأمان الوصول

اعتادت جدتي -رحمها الله- الاستيقاظ في السادسة صباحاً لإطعام الخراف، كانت تملك -قرب مدخل الطابق الأرضي- مخزوناً من الخبز المجفف، تجلس بجانبه، تفرش حصيراً على الأرض، وتبدأ بمطرقتها تفتيت الخبز، لا أعلم ما إن كانت الخراف تهتم كثيراً لهذا، ولكن جدتي كانت تفعله على أي حال، تفتت الخبز كل صباح قبل تقديمه لخرافها، وأراقبها أنا أحياناً في انتظار الإفطار.ـ


لا أزال عالقاً في ذكرى وصولنا ذات خريف إلى باجل، لم تكن في البيت لترحب بنا، وحين أشار أبي إلى البعيد رأيناها ترعى خرافها على وقع الغروب، ربما لكل هذا تأثير على رغبتي الأولى في أن أصير مزارعاً، الحقيقة أنني أخبرت والدتي عشرات المرات بعشرات المهن التي أريد أن أمارسها، ولكن الزراعة كانت أولها، لسبب ما غريب كان الطفل المتفوق في مدرسته يريد أن يحرث الأرض، ويعود في نهاية اليوم بسلال الخضار إلى والديه، وكذلك الأمر مع حلمي القديم بدراسة المعمار، لا أعلم، ربما لا علاقة لجدتي بالأمر، ربما تكون نزوات الطفل فيّ لا أكثر.ـ


ولكنني لم أخطئ في نزواتي الأخرى، فوجدتني أحلم بالبحر، وبامرأة ترافقني رحلة عبور الجبال المتدافعة حول المدن، وحول الأطفال الذين لا يعرفون الغزاة، وحول الأطفال الذين لا يعرفون الحياة. ووجدتني أحلم بأن أصير معلماً، كانت أمي تبتسم وتشير لي برأسها كل مرة أخبرها بشغف ما جديد، حتى حين أخبرتها في نهاية الثانوية برغبتي في دراسة الفيزياء الفلكية، لم يبدُ لي حينها أنها أحبت الأمر، ولكنها لم تقل شيئاً، كان الخيار لي دائماً، إذ كنت قد أيقنت -مبكراً- أن بمقدوري أن أكون كل شيء، ولم أكن لأتخيل يوماً أنني قد أريد أن أكتب وأترك كل شيء ورائي، لولا قسوة القدر، وظروف الحياة.ـ


لم يتغير الكثير منذ ذلك الحين، تسألني والدتي مرة كل يومين: كيف حالك؟ وأسألها بدوري: كيف حالك؟ ويترك كلانا "بخير" خفيفة في سجل المحادثات القصير، قبل أن تودعني بسرعة، وأودعها بسرعة، ويعود كل منا إلى عالمه الذي يحجبه عن الآخر. لم يتغير الكثير، لا أزال أخبر والدتي أنني سأصير مهندساً ذات يوم، وأنني سأعود حاملاً معي سلال الخضار التي وعدت بها، وحياة جديدة تستحقها بعد كل العناء، ولا تزال هي تتعلق بابتساماتي الخافتة، وثقتها المنقطعة النظير بابنها، وخوفها عليه. لم يتغير الكثير، ليس والمسافة تمتد عن جسد الوقت في الغروب، حيث جدتي تنتظرنا جميعاً.ـ


الحقيقة هي أنني بدأت برغبة في كتابة نص رومانسي، كنت مع رفيقتي اليوم، وتبادلنا -كما نفعل دائماً في مشينا الطويل حول المدينة- القصص القديمة ذاتها التي حفظناها عن بعضنا، وأخبرتها بحنين عابر عن كل ما تقرأون اليوم، وعدت لأرى في عينيها أمان الوصول، ونمَت فيّ رغبة الكتابة لها، وربما يكون نص كهذا رومانسي بشكل ما، ربما هو الحب حين يتخلل التفاصيل لبسيطة، فتبدو معه العادات الشاردة، والكلمات القادمة من الأمس، طقساً لاستحضار الانتماء، واحتفاء يومياً بالوجود المتكامل، وبقدرتنا على أن ننغمس في السرد وندرك أن الآخر يفهم، وأن الآخر موجود، وأن الآخر هو النهاية، خصوصاً حين يكون نهاية نزوات الطفل الكثيرة، والأماني التي بدت مستحيلة ذات يوم.ـ