ولدت في تهامة كالريح

ولدتُ في اختناق شمس تموز، وانغمستُ -أول ما انغمست- في الهواء الثقيل من أثر الفقر، كنا جميعنا نجر أرواحنا فيه، أنا وسكان البلدة الصغيرة التائهة في سهول تهامة. كان بإمكاننا أن نرى خيوط الشمس تنزع عن الأحجار عذريتها، ملتجئين منها إلى انتظار طويل للكهرباء، وكان بإمكاننا أن نرى أرواحنا معلقة على أعمدة الوقت، لم يسعنا الانتظار الممتد بين أفقي الغد والبارحة، وتوفي الكثيرون في الهواء الثقيل، وازدحم الوقت بأنفاسنا المنهكة، حتى بدونا نحن من يبث في الأنفاس الحياة، وحتى انتهت الكلمات التي زرعناها دون أن تظلنا شجرة، أو قصيدة، ولم يبق لنا إلا الله..


ولدت في تهامة كالريح، وهماً باللحظة القادمة، وحملت معي ما تساقط من عرق البائسين، حتى صرت أهب في القصيدة ممزقاً، وأهب في لقاءاتي العابرة بالغرباء كطيف، هادئاً -كالآخرين- ومنفرداً بخيالاتي وأحاجيّ التي ضيعت أجوبتها. كنا هناك أهدأ من أن نملأ الصدى بالواقع، وتركنا الآخرين يمرون علينا كفكرة شفافة، لم نزعجهم ببؤسنا، ورأينا خيالاتنا تتلاشى في ذاكراتهم الهشة، وأمانيهم المتواضعة...


وكبرت في عشرين عاماً لأسع الألم الذي ورثته عن الأرض، أتلمس انعكاسي في المرآة وأجده أكثر واقعية مني، وأراني هامشا في الأسطورة التي نسميها الحاضر، وبمشيئة المؤلف لم يكن مقدراً لي ولشعبي سوى أن نموت، ولهذا هربت، رفعت بنطالي إلى ركبتي كما علمتني أمي، ورفعت قدمي فوق الحدود، عابرا البحر الذي ذبت فيه، كان البحر هو الآية التي ارتديتها وارتحت معها للموت...


سافرت قاطعا معراجا آخر، وصليت بأرواح المساكين الذين غرقوا في الطريق، وسألت الله أن يخفف عن الآخرين، وصرخت حين وصلت -وحيداً- إلى أرض جديدة: "وجدتها". لم يفهمني الآخرون، ولم يفهموا ما الذي قد يدفع أحدهم إلى تقبيل الخبز، والاختباء من الرعد. لم يفهم الآخرون - أشباهنا المترفون- الغضب الذي اشتعل فينا حين ولدنا، ولا الألم الذي كبرنا لنسعه، لم يفهم الآخرون الجوع الذي ألفناه وحزنا على فراقه كما يحزنون على قططهم، ولا لماذا بحثنا عن نعوشنا في الشوارع، وصرخنا في سبيل الغد..


كتبت عن الحب والله والألم الذي يموت، ولم أعرف يوماً كيف أكتب عن الآخرين، لا يفهمنا الآخرون، لا يشعر بنا الآخرون، لا يهتم بنا الآخرون، ونحن الذين ولدنا بائسين، ونموت محرومين، لم نتمن يوماً أن يجربوا كيف يغرق الباحثون عن اللجوء، كل ما أردناه هو بؤس أقل، والقليل من الهواء، ولكننا كنا المخطئين، لا لأننا هببنا كريح، ووهم، وصمت، وتركناهم يغسلوننا عن ذاكرتهم، كنا مخطئين لأننا قُتلنا، كان من الأحرى بنا أن نموت منسيين، كما كنا دائماً..