خبز طاوة منسي

أتذكر خبز الطاوة، وأتذكر اسمها، بإمكاني أن أرى طيفاً ما دافئاً يشبهها، ولكنني لا أذكرها، حاولت والدتي إنعاش ذاكرتي لخمس دقائق، خمس دقائق تكفي، تيقنت والدتي بعدها بأن الذكريات رحلت، وغيّرت الموضوع.


كانت والدتي تتحدث عن جارتنا، عن ابنتها بالأصح، وبدأتُ أنا أسألها عمن تكون، للحظة ما كنت متأكداً أن البدروم الذي عشنا فيه احتوى شقتين، وتؤكد والدتي أنهن كن ثلاث، كانت تعيش امرأة هناك، بزوج وذاكرة وخبز طاوة وأحلام، ولكن كل هذا يبدو لي سراباً الآن، لا أزال مقتنعاً بأنهن شقتان فقط، وأن الجدران هي التي أحاطت شقتنا، لا أبواب تؤدي إلى جارات، ولا أشباح ستلاحقني لليالً قادمة..


ولكنني نسيت، ليس بإرادتي طبعاً، وهذا يصدمني للغاية، وفي محاولة الهروب اللاواعي من الأمس، أتساءل عما أتذكره الآن، وعن كتاباتي الكثيرة عن الأيام البعيدة، عن الذكريات التي ألجأ إليها حين يغيب الصحاب، وتذوب الأغاني في صدى التكرار.


أبحث عن جارتنا، في طعم خبز الطاوة الحيّ، في ركام الكآبة الذي أسميه حياة، وسقوطي المتكرر في المرآة وصوري القديمة التي ترسلها أمي من حين لآخر، تجد هي في ألبوم الصور الطفل الذي فقدته، وأجد أنا في الصور خيبة متكررة، وسنين بعيدة، وذاكرة هشة، وها هي ذي جارتنا بُعثت من النسيان لتجذبني معها إليه..


ربما هو الألم؛ التشبث بكل ما يبعدني عنه، ورغبتي في العبور إلى الغد، قطعة واحدة قادرة على الحركة والكتابة بالطبع، وربما هو التغيير؛ انسلاخي من نُسخي الماضية التي أشمئز منها أحياناً، واختراعي لهوية جديدة التقطت أجزاءها في الطريق الطويل إلى اليوم، وربما هي البشرية؛ الذاكرة المثقوبة التي نروي خطواتنا عبرها، وربما هو العدم؛ الحتمي الوحيد الذي نعرفه، أو على الأقل ما أظنني تعرفت عليه في غرفة العمليات، وهذه قصة أخرى، ربما لا تناسب الحسرة على فقداني جارة، أو ذكرياتي عنها. لست أدري، ولا أظنني سأفعل..