بوح خفيف الوقع

في أكتوبر يبدأ بوح خفيف الوقع...

تحت شجرة في حديقة الحي، حيث يمارس العجائز اليوغا، يتخلل الفراغ بوح الشجرة القديمة، مر عام آخر، من الصعب أن تتجاهله، تفقد هي عامها كله، وتترك نفسها لله، ربما تنجو لربيع آخر، وتغمرها الكنوز التي تخبئها السناجب، وزقزقات العصافير، واحتضار العجائز غير المكتمل بحثاً عن مساحة إضافية لعضلة الورك المترهلة، أو قلوبهم التي لم يعد يحملها غيرهم.


أكتوبر شهر غريب في الواقع، ممل قليلاً، وبطيء، بطيء للغاية، ولكن له ذاك البوح الدافئ، لا يتعلق الأمر بغروب الأشجار الحميمي على الرصيف، لم أعرف هذا الوجه للخريف إلا مؤخراً، كانت صنعاء جافة طيلة العام، وتشبه نفسها كل يوم، ولكنها كانت تبوح أنيناً بارداً في أكتوبر، كنا نبدأ بارتداء القمصان الصوفية تحت الزي المدرسي، ونحاول تدفئة أيدينا بأنفاسنا المتقطة، وكان للهواء مذاق مختلف، لاذع نوعاً ما، ربما هو الضباب الذي بالإمكان رؤيته من الجبال المحيطة، وربما هو وحدتي متأملاً في فناء المدرسة، وحدي، باحثاً في المدينة النائمة عن شروق جديد، غد جديد، أمل جديد.


لطالما كان الخريف هكذا، قابلاً للانسياح على أكفنا الباردة، وراسماً الطريق إلى قلوبنا التي سلبها الصيف، والإجازة. هل سيتوقف بوح الخريف حين أعمل طيلة العام؟ لا أدري، لكنني أتذكر وجوه الرجال مع بدايات أكتوبر، ورغبتهم في الحديث بعشوائية، خصوصاً على الباصات العالقة في "الفرزات". سألني أحدهم مرة لم أركب الباص مع مجموعة عمال للذهاب لمدرسة راقية! ولكنني لم أستطع أن أبوح بالكثير، إجابة مختصرة، وكلام كثير، ووجوه لا أزال أراها إلى اليوم في محطات الترام الذي يخترق هدوء الحي. يبدو وكأن الجميع يريد أن يقول شيئاً، شيئاً لم يكونوا ليقولوه في الصيف، في لحظات النشوة التي انتهت للتو، يمكنني رؤية كل هذا في الأعين حين تجتاح الأفواه الكمامات، وبإمكاني أن أتظاهر بالتغاضي كما يفعلون تماماً، وينزل كل منا في المحطة القادمة، آملين أن يكون أحدهم في القطار قد اختطف في شرودنا بوحاً يخفف عنا لباقي اليوم، فالكلمات لا تكفي أحياناً، في الحقيقة، الكلمات ليست روح أكتوبر، خصوصاً حين يتعلق الأمر بشعب يثور في بدايات الخريف، ويحارب في بدايات الخريف، وينتصر ويهزم في رعشات الخريف.


ربما حين ينتهي الخريف -قريباً- سأكتب شيئاً ما ذا معنى، ولكنني سأكتفي الآن بالإشارة إلى المسرحية الوجودية التي نشارك فيها جميعاً، ويحمل صمتنا فيها بوحاً خفيفاً لا يمكن استشعاره في فصل كما هو الأمر في أكتوبر، حيث تعي الأشجار أنها تشيخ، وأجلس أنا على مقعد في حديقة الحي منتظراً أن تغيب الشمس الخجولة لأعود إلى البيت من جديد، وأكتب هذا النص، عن أكتوبر.