يحاصرني الحنين فأحدث نفسي

"يحاصرك الحنين" أقول لنفسي، وأستجدي سماء ميونخ طيفاً خفيفاً للشمس... "يحاصرك الحنين لأنك -وقبل كل شيء- بعيد عن البحر..." أواصل الهذيان، "وكلما بحثت في الأفق وجدت الجبال تلوح من بعيد، الجبال التي تعرفها جيداً، والتي تدحرجتَ من قممها فتى عاصياً، وتعرفك هي بالندوب التي خلّفَتها في روحك، ووجهك، والطريقة التي تقذف بها الحروف هروباً من البوح.كلما نظرت إلى الجبال لا تسمع سوى صدى امرأة تغني لأيوب طارش، لا تراها، ولكنك تتمايل معها، وتتذكر ساحة المدرسة التي ملأتها أغاني أيوب، ويحضرك سراب غابر، والكثير من الصراخ، وساندوتش الجُبْن الذي أعدته لك والدتك. هكذا أنت، غريب للغاية، وكلما بحثت في إرهاصاتك عن معنى لأي شيء وجدت الحنين يجذبني من ذكرى لأخرى، وكأنه يقول: وما المغزى من المعنى حين تملك الأمس؟ الأمس حقيقي، حدث بالفعل، وبالإمكان استحضاره، ورؤية عبث فرشاته على ملامحك وانعزالك وحيداً في الركن البعيد، وكأنك تستجدي الحفل أن ينتهي، والحضور أن يروا كل شيء سِواك، ويروك في اللحظة ذاتها...


الأمس هو العجوز الذي دفعك بعيداً عن صف الصلاة الأول الذي ظفرت به، الأمس هو أصابعك المغروسة في مزيج الرز والملوخية وسط استنكار الآخرين، الأمس هو القميص الممزق الذي وصلت به إلى المدرسة ليسيل ألم العراك على ألم العصا التي انهال بها عليك المدير، والأمس هو انحرافاتك الكثيرة، وتجاربك التي كان بإمكانك الاستغناء عنها، وأمنياتك التي لم تكن تشبهك. إلا الحنين يشبهك، باهت هو، حتى أنك إن حاولت أن تتذكر وجه إحداهن رأيت صورة مبعثرة لك، لا لها، وعينين يشبهان عيني الرجل الأخير الذي قابلته. كذلك أنت، أنت باهت كذلك، تكتب وتنسى أن تقول شيئاً، وتبدو في نهاية الأمر كالغبار الذي تنفضه الجدات عن سرابهن، لا أثر له إلا مع انهيار، ولا يعرف أحد أنه موجود حتى تقرر الفتاة التي يعرفها كل الحي بأن تنفض عالمك، ولو لساعة أو اثنتين.


الحنين -كما أقول دائماً- يشبهك، ولكنك لست متمسكاً به لشبه يجمعكما، كان الأمر ليكون أكثر إقناعاً هكذا، ولكنه لا يفسر حنينك لشخصيات الأنمي التي عرفتها لأيام فقط، حتى أن باستطاعتك أن تحدثها سهواً في حلم ما، أو في أثناء استحمامك، دون أن تأخذ النص -نص قصتك التي كان يجب أن تكتبها- إلى نقطة ثانية، وهكذا أحاديثك كلها، استنجاد بالوقت من سيلان الوقت بين يديك، ومحاولة لأن تجد تعريفاً مناسباً لنفسك التي عرفتها في الأمس، وتفاعلاتك الشاردة مع كل شيء آخر.


أنت تحب الشرود أكثر من أي شيء آخر، أكثر من الكتابة حتى، وتفضل أن تشرد وشخصياتك في عرس الشمس والقمر الذي احتفل به الأجداد، عوضاً عن أن تكتب حرفاً واحداً قد يكون كل ما تملكه من تلك الشخصيات الهلامية، ولكنك لا تفعل، أنت فقط تشرد، تشرد في حلم ما، ولا تتحدث لساعات، متعذراً بوحدتك أحياناً، وبتبعثرك في ضوضاء الجموع أحياناً أخيراً.


لكن دعني أقل اليوم شيئاً مختلفاً، نصوصك القديمة أشبه بالشعر لا النثر، أنت عالق في لقب أمير الشعراء الذي أهدته إليك مدرستك مجاملة، ولو أعدت صف جملك فوق بعضها، لوجدت في انهمارك النثري ريح الشعر، لا القصيدة، بل الشعر، ذلك أنك تائه بين كليهما، ينقصك جسد القصيدة، أو اضطراباتك في ترنيمة القصة، ولا تلوم نفسك -رغم كل هذا- لأنك لم تستمع لنصيحة معلمك، ليس الأمر وأن نصوصك سيئة، بل أنها تائهة، وأنت تائه في حنينك القديم إلى الشعر، رغم أنك توقفت عن قراءته والاستماع إليه، ولكن نصوصك تبوح به، وتفضحك، شاعراً مبتذلاً لا يعرف موقعه في النص، وأديباً مبتدئاً لا يعرف كيف ينهي قصصه، ولو أنك اكتفيت من حنينك بكلمات معلمك المتوفي لكفاك، ولكنك أسير الحنين.


فلا تجزع في نهاية اليوم حين تعود إلى منزلك حاملاً مظلة تفتقد فيها مزاحمة حبيبتك لك، فأنت ستحن لتلك اللحظة حتماً، وستتذكرها كلما تباغتك الأغنيات التي ترافق مواقف حياتك، والعطور التي تحمل عنك سرباً كاملاً من العواطف الثقيلة، ستتذكر وحدتك هذه وستشعر بحنين غير مبرر. لن تتمنى أن تعود، فأنت لست ساذجاً إلى هذا الحد، ولكنك ستشعر بانتماء ما لها، فالحنين يحاصرك في نهاية الأمر، ولا أستطيع أن أقول لك إن كان هذا من حظك أم لا، ولا أستطيع أن أقول لك: لا بد من أن تتحرر، كل ما أقوله هو أن الحنين يحاصرك، وأنني أعرف هذا، ولكنني مشغول باستجداء الغد، فلا تشغلني"