هذا الألم لي

أعزي نفسي بأن أكتب أي شيء. لم أستطع -يوماً- أن أميل إلى ألم وأقول: متى يحين الوداع؟ ذلك أن الألم في حالتي هو الوجود ذاته، أو هو ممتزج بي حد اختلال استيعابي للموجودات، ولهذا -ربما- أجدني أستنجد باللغة، كما أفعل الآن، وباللغات كما أفعل منذ عقد كامل، وأعود في كل مرة إلى قاموس الإنجليزية الأول، ودرس التركية الأول، وكلماتي الألمانية الأولى. حاولت في كل مرة أن أقول شيئاً يشبهني، شيئاً قادراً على تجاوز هذا السراب الذي أنطلق منه، أي سراب الألم الذي فيّ أو حولي، ولكنني فشلت في كل مرة، وفضلت بعدها الانغماس في اللغات التي لا أفهمها، بحثاً عن النبض لا المعنى، إذ ربما ترك أحدهم قلبه في لحن أغنية، أو ربما أجد في وعورة لغة ما شيئاّ من بصمات الجبال في مخيلتي..


وبطريقة ما عبرت الكثير من الأيام، حتى وصلت اليوم عامي الثالث والعشرين، ووجدتني في كل مرة مشدوهاً بقدرتي على النسيان، بقدرتي على أن أنزفني في الكلمات المرتعشة والنظرات الخجولة. كنت أتمسك بالحياة الهزيلة التي وجدتها، تعلقت بكل الأغاني، لا بأغنية واحدة فقط، تعلقت بمئات الروائح، وآلاف الكلمات، بابتسامات الجميلات اللاتي لاحظن وجودي ذات يوم، وبانكساري المتكرر. كنت أدرك أن الألم داخلي أوسع من أن يحملني معه، ولهذا نحتّ ذاكرتي في كل ما تمسكت به في الحياة، حتى في هواء تهامة، وعرق العجائز في حقول "البلس"، ومذاق "السلتة" من يدي والدتي، ولم تبق إلا الكتابة كعزاء أخير أفيض فيه كلما حنت ذكرى ما إليّ أو غدرني الوقت والقدر...


ولكن كل هذا يبدو طبيعياً بالنسبة لي، لم أزعم يوماً أني أكثر الناس بؤساً، حتى وأنا أحدث طبيبتي النفسية عن جراحي كنت أبتسم، لا انكساراً، بل لأنني عرفتني في بوحي ذاك، وعرفت الندوب التي لم ترسمها المرآة في انعكاسي، أو لم يصلها الضوء. لست بائساً، إطلاقاً، حتى وأنا أحدثكم عن الألم الذي هو أنا أو الوجود هو، لا أزال أبتسم، وأتحدث عن الغد، وأدرس الهندسة، وأشاهد الأفلام، وأتعرف على نفسي في وجوه الناس، لا أزال أغذي أناي كلما مددت يدي للآخرين، وأتظاهر بطهارتي من الحب، وأتحدث عن الله دون خوف. كل هذا سيمضي، وسأجد نفسي في صباح ما مشدوهاً، كما أنا اليوم، من قدرتي على النسيان...


أعزي نفسي بأن أكتب أي شيء، وآمل أن يقرأ الناس -بعد قرن كامل- كل هذا ويتساءلوا: فيمَ كان يفكر يا ترى؟ أحمل الكثير من التناقضات، وأعرف أيها ينتمي إلي، وأيها أنتمي إليه، هذا كل ما في الأمر، لا شيء مهم هنا، وكل شيء هنا مهم، يتطلب الأمر فقط أن يقف القارئ على الجانب المناسب من النص، وأنا أقف على الجانب الذي ينزف...