أشتات ووجع

يوم خرجت والدتي حاملة حجراً، كنت أكثر انكساراً من أن أقف في طريقها، لم يكن أحد ليفعل، حتى ذاك الشاب الذي كان يخنقني على رصيف العمارة، ولعلها كانت أكثر انكساراً مني، إذ وجدت ابنها طيلة عامين يحمل قلبه في يديه، وجرحاً جديداً كلما عاد من المدرسة.



كنت قد استيقظت ذات يوم في شقة جديدة. بطريقة ما -لم أفهمها حينها- احترق العالم من حولنا، وانتقلنا إلى حي فقير، ووجدتني محشوراً في كرسي واحد مع. ثلاثة طلاب، نتقاسم مساحة الخشب أمامنا كما نتقاسم مع ٩٠ آخرين الهواء ولذع العصا الخشبية. وبين البيت والمدرسة نصف ساعة من التسلل بين الجبال.



كنت وحيداً تماماً، ومضطراً إلى أن أضع رأسي أمام اللكمات المنهالة على إخوتي الصغار، لم أفهم يوماً لماذا يضربوننا، أعني أنني أفهم ما الذي يدفعهم ليقوموا بضربي، إذ اكتشفت في صيف ما علميّ النفس والإجتماع، ولكنني لم أفهم لماذا؟ لم أخرج منتصراً من عراك، وكلما مرت السنوات شعرت بالامتنان لهذا العالم الذي ينجيك فيه العقل، لولاه لانقرضت وأمثالي، وقد نجوت، حتى وإن دفعتُ عائلتي ثمناً لهذا..


وحين يحدث أن أصل إلى المدرسة، بعد أن أنجو من عراك صباحي، أضطر للاستماع إلى خطب المدرسين الطويلة، سئمت بعد أشهر تصحيحي لمدرس الإنجليزية أخطاءه، وتعودت العقاب الجماعي الذي يفرضه المدير، حتى على المهذبين، واختلطت مع الأطفال الذي حسبوني ابن مسؤول كبير في الأشهر الأولى، ربما بسبب الثياب النظيفة وسندوتش المربى الذي تدسه والدتي في حقيبتي كل يوم...


أتذكر اليوم الذي توقف فيه أحد المدرسين عن الشرح وبدأ يحكي لنا عن عظمة الرئيس، وكم هي اليمن محظوظة به، وكم نحن أفضل من الآخرين بهذه البلاد، وقد كنت سأصدقه، لولا أنني عدت إلى المنزل ووجدت إخوتي يغمسون بقايا خبز البارحة في الشاي للعشاء، ومنذ ذلك اليوم قررت أن أهرب، مهما كلفني الأمر، حتى لو خسرت أربع سنوات من دراستي، ورأيت أصدقائي يتخرجون قبلي، وكذبت على والدتي بأنني حصلت على منحة لأسافر دون أن تخاف هي علي، وحتى إن انهار جسمي لأنني لم آكل سوى المعكرونة لأيام..


وحين التفتُّ لمحمد ومحمد ومحمد ومحمد، من اقتسمت معهم الطاولات، والغبار الذي نفضناه عن أرضية الفصل، والحزن على الأغراض المسروقة وقت الراحة، والجدالات الطويلة عن ريال مدريد وبرشلونة، شعرت بالأمان للحظات، واخترتهم في فريقي، إذ كنت تلميذ أستاذ العلوم المدلل، وحين انتهينا من مباراتنا الأولى كنت أحلّق في أحضانهم وعلى كتفي شارة القائد وتمر أمامي أربعة أهداف هي كل ما سجلته في ذاك الموسم الكروي، ولهذا فقد اخترتهم لنكتب الشعر..


وقد جلسنا أربعتنا في غياب الآخرين على الطاولة الصغيرة مقتسمين الإلهام لنكتب في دفتر أقرأه الآن القصيدة تلو القصيدة، حتى حسبتنا ننتزع الكلمات من قلوب بعضنا، وكلما نظرت في عيني أحدهم رأيت قافية جديدة لشعر غير موزون هو أول ما عرفته من الكتابة.


كتبنا عن الرسول والموت والفراعنة والكتابة ذاتها، وانتهينا إلى الحب، محتفيين بأي قصة حب يعيشها أحدنا، حتى وإن كانت مع فتاة لا تعيره اهتماما، يراها كل يوم تخرج من المدرسة. كنا ساعتها بلا ذاكرة، ولهذا وجدتني أحلم، حتى والشمس تغسل عيني من الحياة، وحتى وأنا أكتب الآن. كنت لا أزال غير قادر على تجاوز صدمة واقعي الجديد، وكنت كلما ارتميت على الفراش أدعو الله أن يكون كل هذا حلماً، وان أصحو الغد في بيتنا القديم، ومدرستي القديمة، والحي القديم الذي لم أضطر إلى الخروج إليه لأضرب، حتى وإن خسرت الشعر في الطريق..


ولكنني كنت أصحو كل يوم لأغمس الخبز في الشاي، وأنغمس في الشارع الترابي، والبيوت الشعبية، والأنين الذي لم أفهم سببه، وصوت صديقي الذي لم يكن يستطيع أن يدفع ٥ ريالات، هي ثمن دخوله الاختبار..


ولا بد أنني فقدت إيماني حينها، إذ كنت أحفظ الأذكار كلها، خصوصاً المرات الثلاث ل "بسم الله الذي لا يضر باسمه شيء.."، بل إنني كنت أكرره طيلة الطريق، وأعود إلى البيت منكسرا وأنا أنظر إلى السماء باحثاً عن الله: ألم تقل أنك ستحميني إن فعلت؟


وحين وصلت إلى المدرسة في صباح يومٍ بارد بقميص ممزق ووجه أغبر، كنت قد اكتشفت أن ثلاث سنين قد انسابت من يدي مذ دخلت تلك المدرسة لأول مرة، ووجدت أمامي الرفاق يبحثون في وجهي عن اسم الفاعل، محمد ومحمد ومحمد ومحمد، وبالطبع هيثم، هيثم الذي أنهى عامنا الدراسي الأول بأن أهداني بالونا وميدالية قبل أن يختفي في خجله خلف الجبال...


عدت يومها إلى الطريق ذاته الذي قطعته خائفاً لثلاثة أعوام، وخلفي خمسة عشرة رفيقاً، وأربعة كلاب، لم نلعب الكرة كما اعتدنا أن نفعل، ولكنني سرت آمنا، للمرة الأخيرة ربما، ومضيت أحلم، وأدمن الحلم، حتى وعصابة بأكملها تحيط بي، والآخر ينسفني بكلماته، ويلوح بخنجره...


كنت أحلم وأنا أُخنق، وكنت أحلم وأنا في حضن والدتي، وكنت أحلم وأنا أدس بقايا طعام البارحة في فمي، وكنت أحلم وأنا ألعب الكرة، ومن يدري، بعد كل هذه السنين، وبعد أن قرأت في علم النفس، ربما يكون كل هذا حلماً، وكم أتمنى لو أنه كان كذلك..