نزيف شعري والكثير من الخوف

كنت أحبو حين أخبرتني والدتي أن الخوف هو ما سيصحبني في حياتي، وكبرت لأجد في قلبي نزيفاً شعرياً، كان بإمكان والدتي أن ترى اضطرابي أمام الباذنجان، لا أزال غير قادر على تناوله، إلى اليوم، حتى وإن قدَّمَته في طبق "بابا غنوج" فاخر، وكان بإمكانها -بغريزة الأم- أن تتحسس النتوءات التي يولدها الخوف في نظري؛ الخوف من المعتاد، والخوف من الممكن، والخوف من المستحيل..


ووجدتني طفلاً يحلم، كنت أصبغ الجدران بالشمس، وألعب كرة القدم بفريقين من الألوان الخشبية، وأتجنب أن تجرح أصابعي "عمتي زبيبة" (حشرة تظهر صيفاً قبل موسم العنب) وحين أخرج إلى الشارع أجدني متمسكا بالرصيف، وكبرت لأنسكب سرابا على الأرصفة، ألاحق قصص المشردين، والروائح التي يؤرخ بها المارون خطواتهم. أما حين قطعت - طفلاً- شارعي الأول، تأملت ضفة الرصيف التي أقلعت منها، والجحيم الإسفلتي الذي تخطيته، ورحلت، رحلت بعيداً لأجدني اليوم محاطاً بجبال الألب، وخلفي ذاك الرصيف الأول، وأشباح عائلتي تغرب مع الجبال.


وحين أمسكت بقاموسي الأول، وجدتني خائفاً من سيل الكلمات، لا الكلمات التي أقولها، بل تلك التي أعجز عنها، وكدت أقسم -لولا أن أمي رفعت قلبي إلى السماء كغيمة- أنني لا أعود، وكبرت لأقول "أحبك" بخمس لغات، ولأضع على حائطي في الفيسبوك كلمات درويش

"أنا لغتي، أنا ما قالت الكلمات كن جسدي ،فكنت لنبرها جسدا"

إذ وبطريقة ما سمعت نداءها الأول القادم من شغف المعرفة.


ووجدتني -صدفة- أقرأ للبردوني، وأتعرف على القصيدة، كان موعدنا الأول عشوائياً، أضع أنا معنى للحركات التي تفتعلها القصيدة، وتتجنب هي أن تدفع فاتورة طفولتي، لم أكن محظوظاً كفاية لأجد في منزلي كتباً، ولهذا انكببت على كل الأوراق التي وجدتها، المجلات والإعلانات والجرائد والقرآن، ولم أشبع بعد.


وأما حين دخلت عراكي الأول، وعدت إلى منزلي أجرّ ذيلاً من الخوف، وجدت أمي في استقبالي، ووجدتني أفتش في ماضيّ عن الخطأ الذي ارتكبته، أو الخطأ الذي ارتكبه الله، وحين آمنت بأن الماضي لا يعود - قبل أن أقرأ عن آينشتاين بسنوات- صرت أشتم بقلب مرتجف، وألوح بيدي في الهواء بحثاً عن وجه أعيد ترتيب ذكرياته، دون جدوى..


كنت طفلاً هشاً، وكبرت لأجد في هشاشتي الممزقة نزيفاً شعرياً، هو كل ما أملكه اليوم، هو وقلب كبير لا يزال يبحث عن معجزة. لي -كما أقول دائماً- قلب من زجاج، وقدر من دخان، والقليل من الحظ أكتب به ما بقيت.