نص طائش (أو ثلوج ميونخ)

استسلمت مؤخراً للكتابة بالوهم، كاتب سرحان بالأصح. لم أدون أي شيء خلال الأشهر الماضية، إلا أنني أنهيت ثلاثين نصاً على الأقل، وتعثرت عند قرابة المائة، ونسيتها كلها. أخال أغلبها تستحق قراءة عابرة، وربما يليق بعضها بالنشر، ولكن الأمر لن يختلف كثيراً لو كنت دونتها في حاسوبي وحذفت الملفات في هفوة مقصودة. أريد أن أصدق أن بمقدور الكاتب أن يتطور بالوهم، بالنصوص التي لا تكون، ولا تتاح لها حتى فرصة الإهمال في الحواسيب المثخنة بملفات العمل والدراسة، إلا أنني أتجاوز كل هذا وأسال نفسي كل مرة عما يعنيه النص الجيد أساساً؟ عما يعنيه النص الصالح للنشر؟ وأهم من كل هذا، عما يعنيه النص الناضج؟


وصلت مؤخراً إلى اقتناع بأن غالبية نصوصي طائشة، لاتزال تفتقر إلى النفس الطويل، وتستعجل نفسها حتى تتخبط في خطواتها الأولى؛ أرى وقوعي في نهاية القصة، ويغيب عني ترنحي في مساراتها كلها. وإن كانت نصوصي طائشة، لا طفولية، فالنصوص الطفولية -وهي كثيرة- تصيبني بحساسية مفرطة، أعطس أحياناً حتى، ويغلبني ضيق النفس والانفعال الذي يدفعني للبحث عن أصحابها ولعن تاريخهم... على أي حال، فإن كانت نصوصي طائشة، كما آمل، فلا بد إذاً من يكون النص الناضج عكسها، أو خلافها، شيء ما يشبه ما أقرأه عند ماركيز وعبد الرحمن منيف وهمينغواي، أعرف جيداً كيف يبدو، ولا أعرف تماماً ما هو، ولا كيف أعيد انتاجه. أخالني أتفوق عليه حين أسرح، ولكنني أنسى كل تلك النصوص، فلا يعود ثمة من وسيلة للمقارنة - لحسن حظ نصوص الآخرين بالطبع. أعرفه جيداً، وبمقدوري أن أميزه من بين مائة نص في مكتبة للنصوص المستهلكة، وحين أمسكه أدرك تماماً أنه نص ناضج، وأهمس فيه أحياناً، أنت نص ناضج، ولا يدفعني للتساؤل حول أفعالي هذه إلا حيرتي حيال ما إن كان النص الأجنبي يفهمني حين أقول له أنه ناضج.


هل لعادات الكتّاب دخل في الأمر؟ أيكتب رجل غير ناضج نصاً ناضجاً؟ ربما أعرف الإجابة بالفعل، وأتغابى لدوافع طائشة. هأنذا استيقظت لتوي من ليلة متقلبة، وبدأت أكمل نصاً متعثراً من بقايا وحدتي البارحة، ولم ألتفت للإفطار حتى، ألا يعد هذا فعلاً طائشاً واستعجالاً لتعثر النص؟ ولأخفف عن نفسي قليلاً عدت لقراءة همينغواي، كنت قد اقتنيت تجميعة أعماله الكاملة مطلع العام، وأنهيت نصفها، نصفها الشاب بالأصح، إذ جُمعت الأعمال وفقاً لموقعها الزماني من سيرته، وهو بطبيعة الحال يزداد نضجاً في كل قصة. وصلت البارحة إلى "ثلوج كلمنجارو" للمصادفة، وتوقفت بسرعة، أربع صفحات من القراءة الثقيلة تكفي، لا لغلبة النعاس فحسب، بل لأنني محاط بالثلوج كذلك، ثلوج ميونخ بدورها تستحق أن تكون قصة. شاهدت طفلاً يعبر خلال حقل مكسو بالثلج وهو يغطيه إلى رقبته، وانتظرت بسأم أن تعود خدمات التوصيل إلى توفير البيتزا الباردة ووعود التوصيل السريع. انتظار الموت على قمة كلمينجارو، وانتظار البرجر في شقة في ميونخ، كلاهما يشبهان بعضهما؛ وحشيان في طبيعتهما، ويدفعان الرجال إلى التفوه بالهراء، هذا الهراء تحديداً في حالتي. أترون؟ ثلوج ميونخ درامية كذلك، وتستحق قصتها.


سأكتب في نهاية الأمر، أو بالأصح، سأدون قبل أن يباغتني الوهم، لا لأنني أريد، بل لحاجتي إلى ما يغلب الوحدة؛ لا أتفوه بكلمة واحدة طوال اليوم، ولن أسعف نفسي بأن أنسى حتى الكلمات القليلة التي تراودني في لحظات الانفعال ولحظات السكينة. الكتابة العلمية لا تكفي؛ الكلمات التي تخرج في سياق علمي لا تشبه الكلمات العادية، أشعر بها مفرغة من أي روح، تسكبها وتفرُغ بعدها، لا ترويك، ولا تكفيك، إلا أنها ضرورية في نهاية المطاف. يكتب الألمان بطريقة علمية إن صح التعبير، بل هذا هو التعبير الأدق، ويتحدثون بطريقة علمية، ويمزحون بطريقة علمية، ولهذا فكل شيء يقولونه فارغ تماماً، وممل، ممل حد الرغبة في الهجرة، وحد السقوط في فخ الغفوات المباغتة، حتى والآخر أمامي يحدثني بحماس منقطع النظير. أظن هذه الطريقة الوحيدة التي يجيد فيها الألمان افتعال المشاكل، إنهم يضجرون الآخرين بكلامهم ليباغتوهم بانفعالهم وتجبرهم، لم تستسلم باريس وقتها، بل غفت واستحوذ عليها هتلر، فهل للألمان نصوص ناضجة كذلك؟ أيمكن لشعب طفولي أن يكتب نصاً ناضجاً غير علمي الطابع؟ لا أظن، على الأقل ليس قبل أن يتحرر الألماني من ألمانيته، ويبدأ الحديث كالبشر البسطاء.


ربما يجدر بي العودة إلى أخصائيتي النفسية، ستقول لي أنني ناضج تماماً، وأن بمقدوري أن أكتب نصاً ناضجاً، وأن تعثراتي هذه كلها بفعل الحرب والطفولة المتخبطة وكيمياء الدماغ. حسناً، ربما ليس هي، لكن أخصائيات أخريات قلن كل هذا بالفعل، وأصرت إحداهن على تجاهل كل شيء والتركيز على تخصصي الدراسي، إذ لم يختار كاتب تخصصاً هندسياً معقداً! وأظنها كانت محقة إلى حد ما، ربما كان يجدر بي أن أعيد التفكير في الانغماس في الكلام العلمي. هذا أبعد ما أصل إليه اليوم مع العلم بأنني منخرط في تخصص علمي، نعم، تعثراتي هذه كلها، منذ بداية النص، وإلى الآن، مرجعها انغماسي -مجبراً والله- في عملية الألمان وعلميتهم، إذ لا شيء حولي يستحق أن أكتب عنه، ولا أحد في الشارع يليق ولو حتى بقصة ستنتهي في سلة المهملات. نعم، أراهن أن هذا هو السبب، الألمان هم السبب، وحدتي هذه هي الطبيعي هنا، ولم تكن لتكون كذلك في أي بقعة أخرى، حيث يعيش بشر طبيعيون، بكلمات حية، وشخصيات تقتحم قصصك دون إذن حتى. إذاً، وفي ختام النص، لا بد من أتبرأ من كل شيء، وأن أترك ثلوج ميونخ خلفي، والأهم من كل هذا، عليّ أن أجد ما تبقى من حبوب فيتامين د، فالشمس هجرتني هي الأخرى، وقد تكون هلوستي هذه أعراض اكتئاب شتوي متكرر.