إليّ... أنت يا ابن أبي

إلى الآخر، إلى ذاك الذي يشبهني كثيراً، إلى الحنين والظلال التائهة في أزقة المدينة، إليّ في الماضي المعجون بالأخطاء، وإليك أنت يا ابن أبي، ووالد أمنيات الحب..


لك ليل يهطل على الأحياء الشعبية بالحياة، فلا تنسَ أن تحمل روحك على كتفيك كلما حلّ وتذهب في جولة مسائية، وتوزع ابتسامات ساذجة على المارة، وحاول -وأنت تمر على الرصيف كما تفعل عادة خوفاً وحذراً- أن تتلمس خطوات الآخرين، وأن تضع قدميك تماماً حيث وضعوها وتسقط -كما سقطوا- في وحي الأمنية. في هذا الليل، حيث أنت قادر على أن تجمع الظلام في علب زجاجية من الشعر وتهديه في اليوم التالي للأطفال الذين اضطروا للنوم مبكراً، دفئ يشبه ذاك الذي ينتجه احتضان الحبيب، فانس نفسك ما استطعت في اللحظة الراهنة..


واجتهد ألا تدهس قدماك الحائرتان دون قصد أحلاماً شردت من أسرة البائسين، واجتهد أكثر في جمع خيوط الحديث حتى تنظمها متى ما استطعت قصة لا يرى آخرها أولها إلا في الليل من أثر اشتباك الشكوى بالامتنان. أما حين تمر بجوار إحدى بيوت حيك الشعبي -حيث اعتدت أن تلعب كرة القدم على وقع قرع غد لا بؤس فيه- تمهل قليلاً، فربما يتحدث أحدهم في نص رواية محتملة، ذلك أنك -كما عرفتك- عاطفي كثيراً ولا تجيد انتهاز ما يقدمه الزمان إليك، وربما تعيش شخصيات روايتك القادمة بجوارك، على بعد جدار حجري أو زقاقين ترابيين.


و الواقع أن الناس في حيك بقدر ما هم بلهاء فإنهم طيبون إلى حد ما، ولعلك تفشل في إيجاد ما بذرته الفطرة في قلوبهم، لذا وحين تصلي في جامع ما تأمل وجوه المصلين، عُدْ معهم لتواريخ تلك الندوب، وتعلم كيف تمكن سيل الزمان من اختصار الأحداث في تجاعيد وتفاصيل وانحناءات وانبعاثاتِ واقع..


وحين تحس بأن الحرب مستحيلة تحدث مع الصبي الذي يعتزل أبناء الحي الآخرين ويفضل أن يراقبهم من أمام باب منزله، واسأله: هل ستعيش يوماً لتشهد تلاشي السماء أو سقوطها؟ و حين يجيبك بأنه لا يعرف، عد إلى الشارع حيث يلعب الأطفال الآخرون واسألهم: من سيموت قريباً في انفجار لغم ومن سينتهي به الأمر في قصف حافلة أو تحت الركام؟ وحين يجيبون بأن يواصلوا لعبهم، اكتب على الشارع: أولئك الذين لا يفهمون الحرب هم من تقتلهم بدلالها العبثي.


أما حين يباغتك الصاروخ الأول وأنت في منزل لمن رأيت أنهم غرباء، رغم أنك كنت تعرفهم بالأمس قبل أن تنام، فعد إلى بيتك مسرعاً، واصنع تابوتك قبل الآخرين، وتجول في المدينة للمرة الأخيرة كل يوم. وحين ترى أحد جنود الظلام الذي يختصرون الله في البنادق لا تفكر إلا في أن تلعنه أنت وكل من في الباص، وعوضا عن البحث عن آثار الكهف في عينيه، حاول أن تجد في وجوه الصامتين قاربي أمل في أمواج الخوف العاتية، إذ ستكون أول من يلعنه وأول من يُقبض عليه وأول من يُقتل ربما، ولكنك ستكون قد أنقذت كل ما يمكن إنقاذه في عاصفة الخوف تلك، وعلمت كل من في الباص كيف يكونون أحرار بعد أن أنستهم العقود أنهم بشر كالآخرين.


وإن كنت أجبن من كل هذا فعد إلى جبل ما من جبال المدينة، وحدثه عن كل شيء، عن كيف كنت ترسم أحلامك الذهبية في الشِعر، وتضع الشمس خلفه مبتسمة، وكيف انتشلت "اليوم" فقط من أعاصير الزمان، وكيف سلبتك الحرب الغد والأمس معاً، وإن كنت محظوظا فقف أنت لا الجبل في مواجهة القذيفة القادمة.


و حين تفتش عن حب في دوي الأخبار التي لا تتوقف، تذكر كيف علمك الحب أن للقصيدة شطرين بعد أن كنت تظنه واحداً، وتعلم أن تنتظره كما ينتظر صدر القصيدة عجزها ويتساقط معه في بسمة القافية، وانظر إلى كل فتاة تمر أمامك واختر لها من شباب يرقعون أحلامهم فارساً، وقل لهما: للسماء ف "طيرا".. وفتش في الرسائل القديمة التي نسِيتها أو نسيتك، فربما بُعث الحب هناك قبل أن تبعثره الحرب.

.

وحين تعود إلى حضن والدتك بعد أن تكون قد مشيت عشرات الكيلومترات بحثاً عن بوابة رزق يخبئها أحدهم تذكر أن تشتمّ رائحة عرقها، وتنغمس فيها، تماماً كما تنغمس الشمس في البحر لتشرق منه، وتذوق طعامها الدافئ حتى وإن أزعجتك الصواريخ أو كان ما قدمته أقل مما يسد جوعك، ولا تنسَ أن تكتب أنشودة في المذاق الجنوني لكل ما يمر بين أناملها، وحين ترى هي في يدك سفراً تقرأ منه أحلامك وأشعارك وآهاتك وتاريخك، وتعيد فيه تشكيل نفسك، هبه كله لها، وقل لها ولأبيك: لعلي لا أعود، وحين تقرأ كل هذا قل لنفسك: هل ستبكي الآن؟ أم أبكي مكانك؟