كنا جميعاً يمنيين

لو كان لي أن أختار وطناً قبل الولادة، لما ترددت لحظة في أن أختار انتماء آخر، ولكنني ولدت في تلك الأرض، وأجد غبارها ملتصقاً بعيني، لا أرى العالم دونه، ولا أعرفني بغيره، وسواء أحببته أو لم أفعل، فلن أسمح لأي كان بأن يسلب مني هذا الانتماء. لقد تعلمت هناك كيف تحمل الريح صرخات الناس وتمضي، وألقيت نفسي -مرغماً- في الوحل، والعراكات اليائسة، وانهمار عصيان المعلمين في المدراس..



لقد كنا -جميعنا نحن البؤساء- نستيقظ في السادسة لنترك على الجبال أحلامنا الناقصة، وخطواتنا المرتجفة. وتقاسمنا خيوط الشمس كما تقاسمنا البلاطات في الفصول الدراسية. وتحدثنا مراراً عن جمال ظلالنا على الشوارع "المزفلتة"، حتى ودمائنا تمتزج ونحن نلعب عليها، وأحذيتنا الممزقة هي جمهورنا الوحيد، وكتبنا الشعر على جبهات العجائز، حتى اللواتي فرقننا باللعنات من الشبابيك..



وكلما فكرنا في الأمس، لم نتذكر إلا لعق أصابعنا بعد "البفك" و"الطرزان" وانغماساتنا المشبوهة في "عصيد" أم محمد، و"سلتة" الوالدة، و"كدم" المعسكر، وخبز الشيباني. متسللين حول الليالي اللتي خبأنا دموعنا في نجومها، ومتفادين الذكريات الملغمة. لقد كنا الصدى الذي ينبع منه الليل ليُغرق العالم، وكلما ظننا أن الظلام داخلنا سينتهي، وجدنا أنفسنا ننعكس في بعضنا، وننزف الليل كما ننزف ابتساماتنا الباهتة في آخر اليوم..



وقد كنا -جميعنا- يمنيين، وإن لم نرد أن نكون، ونحن نتداول ترددات القاف والجيم، ونصبّر أنفسنا بحسين عامر قبل الغروب، وندندن للآنسي في العيد. لقد كنا يمنيين -دون أن نعي- ونحن نتعثر بالمطبات، ونسيح في مجالس القات، حتى لا يعرف أحدنا أي الكلمات التي تحوم في الفراغ هي له، وأي الأحلام هي تلك التي خلقها في طفولته، وأي الجالسين حوله سيحمل نعشه..



كان كل هذا نحن، وإن لم نرِده، وكلما اصطدمنا بالعالم عدنا خائفين إلى تفاصيلنا البسيطة، تفاصيلنا التي تخصنا، تفاصيلنا التي تدحرجت من قمم الجبال لنسقط معها في الخوف واليأس والألم، ونقيس العالم -كل العالم- على ندوبها، ولن يسلبنا أحد كل هذا، لا أصحاب الانتماءات الضيقة والشعارات الفضفاضة، ولا المحتكرون لله في بنادقهم، كل هذا هو نحن، وسيكون هدفنا منذ الولادة أن نتخلص من عبء كوننا يمنيين، وحتى نفعل، لن يسلبنا الآخرون معاناتنا، ولا من نكون..