عالم تسرده النساء

إن ما بإمكان امرأة أن تقوله عن العالم يضع كل ما تعرفه البشرية عن النساء في موقف محرج؛ تتحدث عن جمال النجوم وهي تعني أن البحر لا يشبه السماء، تقول: من أنت؟ وهي تعني: أحبك، وتقص تاريخ جارتها لتفهم الأخريات أنها اشترت مزهرية جديدة لم يقدمن في حقها الإطراء المتوقع.

لا يشبه عالم النساء أي شيء آخر، يقف الرجل مشدوهاً وهو يحاول أن يتحدث مثلهن، ولكنه يكتفي بأن يقول: أحبك. يسقط الرجل في وحل قلة التجربة، يذهله ما بإمكان النساء أن يقلنه، يبدو العالم وردياً وناعماً ورومانسياً معهن، بإمكانها أن تتحدث عن الهولوكوست والحرب العالمية الثانية، ويسرح هو في خيالاته عن كم كان جميلاً هذا الهولوكوست.


مفردات الرجل قليلة، ولهذا فهو يبحث دائماً عن المعنى؛ عن الشعر، الرجال يكتبون قصائد جميلة لأنهم لا يقولون الكثير، إنهم يكتفون بالمعنى، أما النساء فقادرات على خلق عالم مختلف في كل قصيدة، ونكتفي نحن بالاستماع.

إن الفراشات قادرات على أن يكن وحوشاً تستحق أن نخاف منها بمجرد أن تشرح لك امرأة كم هي مخيفة الطريقة التي تتحرك فيها الأجنحة الملونة، وكم هو مؤلم أن تحط سيقانها الشوكية الستة على أذرعهن، وستقتنع بهذا، قد تضحك في البداية، ولكن الأمر سينتهي بك إلى أن تخاف الفراشات.


أكتب الآن -ودائماً- وأنا أتجنب أن أتعثر بشخصية امرأة، إنه لتحدٍ هائل لكاتب مثلي أن يبث الحياة في كلمات امرأة. لا يشبه الأمر القيام بمحادثة عادية، إن الكتابة بروح امرأة تعني الخوض في المستحيل، يجلس الرجال على حافة الرواية وهم يدخنون أفكارهم باحثين عن الكثير من الكلمات التي يمكن تلحينها لمحادثات نسوية، تقول المرأة كل شيء إلا ما تريده، ستحكي حياتها، وتاريخ عائلاتها، وعلاقة الأذين بالبطين، وسبب تسمية الفرجار (الفرجال) بهذا الاسم، وستقول لك أنها أمسكت ذات يوم بأرنب من أذنيه أو ابتلعت -دون قصد- اسمها ذات يوم.


وستتحدث بأسلوبها الخاص -سواء كانت ممطرة كعاصفة أو شحيحة كصحراء- عن الطريقة التي تضع فيها خدها على الوسادة، والطريقة التي تحب فيها ترتيب الأغاني قبل الاستماع إليها، لكنها لن تقول ما تريد أن تقوله، لن تقول لك أن قميصك لا يعجبها، ولا أنها خرجت من علاقة عابرة مع نجم ما بحروق طفيفة لم ترها أنت، و لن تقول أنها: تحبك، ولن تفهم لماذا لا تقول ما تريد ببساطة. إنها طقوس نسائية.

يشبه الأمر الكتابة، ليس هو ذاته، ولكنه يشبهه من ناحية واحدة ربما؛ يترك الكاتب القارئ هائماً بين حروفه بحثاً عن المعنى، كان بالإمكان أن يكتفي ديستيوفسكي بسطر واحد يقول فيه أن هذا العالم قذر، ولكنه لم يفعل، ذلك أن المهم في الكتابة هو الرحلة ذاتها، الطريقة التي تتموج فيها كورقة تخلت عنها أمها الشجرة في ليلة خريفية؛ تسقط وتعلو وتتدحرج في الريح أينما شاءت لك الكلمات...


أقف عاجزاً كلما تحدثت إحداهن، أنظر إلى البعيد غالباً، إلى الفراغ، وأحاول أن أنساب معها، إنني حين أكون محظوظاً بما فيه الكفاية لأتحدث مع امرأة أنسى حتى أن أنظر إلى عينيها، أو ربما أفعل هذا عمداً لكي لا أتلاشى -كما يتلاشى الرجال- في قصة حب جديدة، ما يهم حقيقة هو أنني أحتفظ بعيني لي وأتخيل الطريقة التي شكلت هي فيها الكلمات.

إن ما تتعلمه بعد الاستماع المطول للنساء هو أنهن يجبن الأرض كلها بحثاً عن فكرة واحدة، تتشكل كل كلمة من عجينة مختلفة وتخرج من بين شفتيها -أي هي المتحدثة- كمولودة حديثة لم ترَ العالم من قبل. قد تستخدم النساء كلمات مشابهة لتلك التي نستخدمها جميعاً، ولكننا نجهل أنهن يعطين كل كلمة معانٍ لم تكن لتحتملها في عقولنا.


إن النحو وقواعد اللغة -جميعها- لا يمكن تطبيقها إلا على الرجال، يتطلب الأمر نساء لإعادة دراسة اللغة من جديد، أتخيل أن البشرية لا تزال لم تفهم لغاتها بعد لأنها تنظر إليها بعيني رجل لا يرى أبعد من الطريقة التي تقف فيها الكلمات بمحاذاة بعضها. يتطلب الأمر امرأة لتقول لك ما الذي تعنيه الشمس في لغة قبائل أستراليا، ومن أين أتى تشبيه النساء بالورود، وكيف خُلق الشعر. كان الرجل مشغولاً دائماً بحكم العالم و الاقتتال، ونسي تماماً أن النساء كن يخلقن اللغة. تجتمع النساء مع بعضهن ليخلقن اللغة، هكذا كان الأمر قبل قرون وألفيات، تحكم هذه اللغة لاحقاً عقلية الرجل، وتحكم النساء بهذا العالم، بطريقتهن الخاصة، ودون أن يضطررن حتى إلى الإمساك بالسيوف، لا تحتاج المرأة إلى تغيير العالم بالسيف، يكفي فقط أن تجمع حولها عشر نساء وتبدأ في الحديث..


إن ما أعدته كثيراً عن استسلام الرجال لقصص الحب أمام كل النساء حقيقي، إن الرجل الذي ينفي تخيله للحب وهو ينظر إلى عيني محدثته رجل يجيد الكذب ليس إلا، وحديث المرأة هنا قد يكون عن أي شيء، بإمكانها أن تتحدث عن تجربتها الأولى في إسطبل ما وكيف جمعت روث الأبقار ولم تنم بسبب الحشرات التي لا تكفيها دماؤها، وتبقى -على الرغم من كل هذا- رومانسية إلى حد الجنون. لا يعني هذا أن خيالات الحب هذه هي حب بقدر ما هي سراب شهي، يعلم الرجل أن خيالاته سراب، ولهذا فإنه يتركها غالباً، بعض الحمقى يواصلون ركضهم العبثي وراء سراب خيالاتهم، إنهم يعلمون أنهم لن يصلوا، ولكنهم بائسون، بائسون إلى الحد الذي ستتحول حياتهم إلى جحيم دون سراب كهذا.


ما يعنيه عالم النساء أكبر من أن يفهمه الرجال، لن يفهم الرجال ما تقوله النساء، ولكنهم سيستمتعون به، وسيعيشون في كل المحادثات الباهتة التي ينسونها بسرعة ما يشبه الفردوس. أكتب الآن باحثاً عن روح امرأة، أقول الكثير عن كل شيء يتعلق بالنساء وأنا أريد أن أقول كلمة واحدة. لا أعلم حقيقة ما إن كانت محاولة يائسة كهذه قد تجدي، فقط امرأة قادرة على أن تحلل اللغة هنا، وفقط امرأة قادرة على أن تعرف تلك الكلمة.