رمضان في المخيلة الشعبية

يشد انتباهي مطلع كل رمضان استحضار رمضان في المخيلة الشعبية الإسلامية (العربية على الأقل) لا باعتباره فترة زمنية تبدأ وتنتهي مع دوران القمر، بل باعتباره كياناً حقيقياً منفصلاً بذاته، يكتنف ويجلب الخير بنفسه، لا بأفعال البشر فيه.ـ


بالإمكان ملاحظة هذه النظرة في الخطاب الشعبي الموجه للشهر، الخطاب المباشر في طبيعته، والذي يصور رمضان باعتباره ضيفاً يحل علينا، لا باعتبارنا كائنات مسافرة عبر الزمن إليه (وهنا لفتة أخرى إلى طريقة استيعابنا للزمن) وتحديداً كل ما يتعلق بالترحيب والتهليل الذي يلقاه الشهر عند حضوره، الوعود الكثيرة التي نمطره بها بحسن الضيافة، والحزن -الحقيقي أحياناً والمصطنع أحياناً أخرى- عند رحيله، وأضف إلى كل هذا الصفات التي يختص بها الشهر كذلك، فهو -مثلاً- شهر كريم "بذاته".ـ


ما يثير الاهتمام حقيقة، وما يؤيد وجود هذه النظرة التجسيدية لرمضان، هو توهم بعض الأطفال أن ثمة ضيفاً قادماً بالفعل اسمه رمضان، فمخيلة الأطفال البسيطة غير قادرة على فهم الزمن أحياناً، وتحتاج إلى تطور أكبر لفهم المجاز والكيان والاستعارة والتشخيص وغيرها من الصور البلاغية التي يعتمد عليها البشر في فهم المجردات، وقصر الاستيعاب الطفولي فيما يتعلق برمضان ليس إلا انعكاساً لأسلوب الخطاب الشعبي له، الخطاب الذي يصور كزائر حقيقي.ـ


يرحب العربي برمضان كما لو كان ضيفاً، فهو بالتالي يعيد ترتيب حياته، وينشد له، ويفرح به، يزين بيته ويضيؤه، وينتهي به الأمر إلى أن يقيم الولائم له طيلة فترة حضوره، ويسامره حتى يغلب النعاس الضيف والمضيف، بل أن الطقوس الدينية ذاتها تخضع لهذه التصور الشعبي، فصيام ما ضاع من رمضان لا يجلب الروحانية ذاتها التي يحملها الشهر معه؛ فالعبادة هي ذاتها، والطقس الديني هو ذاته، والأجر هو ذاته، ولكن الشهر غائب، ومعه تغيب الروح.ـ


ما لفتني أكثر هو أن هذا التصور المثير لرمضان لم يبدأ مع بداية الإسلام، بالكاد يشير الرسول إلى رمضان "الشهر" في أحاديثه، بقدر تركيزه الشديد على العبادات فيه (الصوم والقيام تحديداً) حتى أن الحديث الوحيد الذي وجدته بمقدمة فيها "أتاكم رمضان" حديث ضعيف مقطوع السند.

كما أن كل هذه الطقوس الحالية لاستقبال رمضان لا إشارات لها في صدر الإسلام، صيام رمضان "كعبادة" بدأ في وقت متأخر نسبياً في التاريخ الإسلامي، في السنة الثانية للهجرة تحديداً، أي أن الرسوم صام ٩ رمضانات فقط في حياته، كرسها جميعها للعبادة، دون أن يقتصرها عليها، حتى عرفنا أنه خرج للغزو وأصحابه وهم صائمين، دون أن تصلنا أية أخبار عن تغييرات أو طقوس خاصة بالشهر.ـ


وكنت أحسب هذا التصور نابعاً من مصر (الفاطميين تحديداً) حيث بدأت الفوانيس وثقافة المسحراتي وأهازيج رمضان الكثيرة، ولكن الواقع يقول أن هناك أهازيج وطقوس تخص كل بلاد عربية، تتشابه غالباً، وتختلف في التفاصيل، يقول الأطفال في صنعاء -مثلاً- في أهزوجة تراثية تخاطب رمضان بشكل مباشر:ـ

.يا رمضان يابو الحماحم (جمع حمحمة أي زهور الريحان) ادّي لابي قرعة دراهم


ولكن ما حصل، هو ما استمر إلى اليوم، أي انتشار وسيطرة كل ما هو مصري، حتى على حساب الثقافات واللهجات المحلية (سأكتب قريباً عن مركزية مصر ولبنان في السردية العربية، وعن أسبابها وتأثيراتها السلبية على بقية الأقطار) حتى صار الاحتفال برمضان يأتي بالفانوس المصري، والأهزوجة المصرية، والمسلسلات المصرية قبل غيرها.ـ


ليس الأمر كما لو أنني أعارض بأي شكل هذه الطقوس الروحانية على عمومها وتنوعها، على العكس، أجد كل هذه الاحتفاءات جميلة للغاية، وهذا الاستحضار الشعبي الغريب لرمضان مثيراً للاهتمام، إذ هو متفرد بغلبة الخيال البشري فيه على الواقع، ولهذا السبب أجد هكذا أمراً مستحقاً للتفكير، خصوصاً حين يبدأ رمضان، وأشغل أغنية قديمة اعتدت لحنها على سبيستون، هي كل ما أملكه من روح الشهر:ـ

أهلاً رمضان يا شهر الإحسان