امتدادات لغوية
(عن معاني الخميس في اليابانية والعربية)

في مقابلة لهيئة البث الأسترالية (ِABC) يؤكد بروفسور التاريخ في جامعة كاليفورينا "ديفد هينكِن" على الأصل الروماني لأيام الأسبوع السبعة. الأدلة التي تقدم لصالح أصلها البابلي واهية حد قوله، والجميع استلهم الفكرة بعد ذلك بتأثير روماني مباشر وغير مباشر، بحكم النفوذ الواسع للإمبراطورية آنذاك. البروفيسور ذاته يستشهد باستعمال اليهود لنظام الأسبوع عينه كدليل على قدم الفكرة -بحكم الارتباط المباشر بأيام خلق الكون السبعة المذكورة في التوراة- ويصر رغم ذلك على الحديث عن الرومان. الحقيقة أن العالم لدى الغرب بدأ في أثينا وروما، كل شيء قبل ذلك لا يعدو كونه محاولات طفولية لبشر بدائيين؛ الإصرار العجيب -لفئة ليست بالقليلة في العالم الحديث- على تخريفات بناء الفضائيين للأهرامات لا يتجاوز كونه انعكاساً مباشراً لثقافة ترى تاريخ العالم ملخصاً في أوروبا، إذ كيف باستطاعة المصريين أن يقوموا بتشييد معْلَم بهذا الإبهار بمقدوره الصمود لما لا يقل عن 6 آلاف سنة. إذاً -يتبادر إلى أذهان البعض- ولأن لا أحد غيرنا قادر على الإبداع، فلا بد من أن الفضائيين ساعدوهم. يفشل الغرب، وهو تعميم أعي قصوره، في تخيل العالم خارج حدود أناه المتضخمة. هذا العالم المترامي الأطراف تجلٍ لخيال قاصر كل ما فيه مشروع توسع وتأثير مستقبلي، وبالتالي فحين يرى الغرب ما يأتيه من الخارج فهو بطريقة ما يرى نفسه، ولا شيء آخر. صورة المسيح (فلسطيني الأصل) المعلقة في جنبات كنائس أوروبا كلها انعكاس لمساعي ألوهية الرجل الأبيض، ولو أنه نظر في عيون الآخرين لرأى فيهم امتداد الوجود، ولرأى الآخرين، ورأى نفسه فيهم كذلك.


ما قادني لقراءة المقابلة مع البروفسور المذكور هو فضول ولدته دروس اللغة اليابانية التي بدأتها قبل أشهر. خلف الكلمات -وهو اقتناع قديم لي- هو الجدير بالتعلم، لا منبعها الإتيمولوجي فحسب، بل ارتباطها بالنظام اللغوي ككل، وبوحها الخفيف بخبايا متحدثيها: بالبشري الذي ابتكر اللغة، والبشري الذي يتجلى في اللغة. قناعتي هذه دفعتني لطرح سؤال عبثي لم أجرؤ على طرحه على معلمة تحاول مجاراة أقلنا مستوى، وهي سياسة صائبة في سياقها، لولا أنها تلقينية وبطيئة للغاية، ولا تقود إلى أي مكان برأيي، ولهذا فقد سألت نفسي: أي صدفة هذه أن تنتهي أيام الأسبوع في اليابانية -جميعها- بالكلمة ذاتها "youbi 曜日"! أي ما الذي دفع الياباني إلى أن ينهي كل أيام الأسبوع بكلمة "يوم"؟ ربما يخبئ الشطر الأول معنى ما! وهو افتراض متهور بالطبع، ولكنه افتراض في نهاية الأمر، وجميع الافتراضات تستحق نهايات مرضية.


اكتشفت لاحقاً، بعد قراءة ماتعة، أن اليابانيين لم يعرفوا مبدأ الأسبوع -بشكله الحديث- إلا متأخراً جداً، وهو استنتاج منطقي بصراحة. الفكرة نفسها اعتباطية أصلاً، لماذا سبعة أيام تحديداً؟ محاولة تقسيم الزمن إلى وحدات أصغر وأسهل تقديراً قديمة بقدم البشري بطبيعة الحال، إلا أنها ليست منطقية دائماً. اليوم -مثلاً- وحدة زمنية ترتبط بشروق الشمس وغروبها، أو بدوران الأرض حول نفسها بتعبير أدق، كلمة day في الإنجليزية -مثلاً- تعني النهار وتعني اليوم كذلك. الشهر وحدة زمنية أخرى ترتبط بأطوار القمر ودورانه حول الأرض، والعام بدوره يرتبط بالفصول الأربعة ودوران الكوكب حول الشمس. ولهذا تحديداً فليس من الغريب وجود ارتباط بين هذه المفاهيم؛ فاليوم في اليابانية له أكثر من كلمة/نطق وفقاً للسياق، إلا أنه عادة ما يحمل الرمز الصيني "日" الذي يشير للشمس، الأمر ذاته يحضر عند الكلمات التي تعبر عن الشهر في اليابانية، إذ يستخدم الرمز الصيني "月" الذي يشير للقمر.


من الاعتباطي أيضاً تقسيم اليوم إلى 24 ساعة (مستوحى غالباً من نظام عددي مبني على 12) وتقسيم الساعات والدقائق المبني على نظام العد الستيني. ما الذي يمنعنا -فَرضاً- من تقسيم اليوم بأكمله إلى عشر ساعات مثلاً، وتقسيم الساعات إلى 144 دقيقة بدورها؟! كل هذه التقسيمات مبنية على روابط ضاربة في القدم لا علاقة لها بالواقع وظواهر الطبيعة، إلا أنها قد تكتنز فائدة في النهاية، وأثبت نظام الساعات هذا -أكثر من كل شيء- بصموده إلى اليوم. إلا أن تقسيم الأسبوع إلى سبعة أيام (وهي سخرية لغوية لا غنى عنها) لا داعي له إطلاقاً. أيام العمل الخمسة التي تتبعها إجازة نهاية الأسبوع فكرة حديثة للغاية ترتبط بالثورة الصناعية من جهة، وبإصرار اليهودية والمسيحية على أيام الراحة الأسبوعية، وبخلاف هذا فلا شيء في التاريخ يشير إلى أنه كان ثمة من ضرورة أو حاجة لتقسيمات أيام الأسبوع السبعة، وتحديداً أيام الراحة الأسبوعية.


رغم كل هذا فإن فكرة الأسبوع تكررت في كل مكان وبصيغ مختلفة، والأيام السبعة لم تكن الوحيدة؛ اتخذ البعض عشرة وغيرهم خمسة. أطلق اليابانيون -مثلاً- أسماء لكل عشرة أيام في التقويم، وميز العرب كل ثلاثة أيام في الشهر وفقاً لأطوار القمر (من هذا التقسيم تأتي الأيام البيض في منتصف الشهر القمري). إلا أن ما ساعد الأيام السبعة على الصمود في نهاية الأمر هو التأثير القديم لبلاد الرافدين على المنطقة عموماً، واليهودية تحديداً (وهو ما يغفله البروفسور ديفد) وبالتبعية على المسيحية ومعتنقيها اللاحقين.


كانت الفكرة البابلية بسيطة للغاية: سنقسم العام إلى وحدات من سبعة أيام، وسنهب كل يوم اسم أحد الأجرام السماوية الظاهرة للعيان، وهي: الشمس، القمر، عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري، زحل. لا يزال بالإمكان تتبع هذا التأثير إلى حد اليوم، ففي الإنجليزية (وعديد اللغات الأوروبية الأخرى) لا يزال يوما الأحد Sun-day والإثنين Mon-day يعنيان يوم الشمس ويوم القمر على التوالي، وكذلك الأمر بالنسبة للسبت Satur-day أو يوم زحل. تحتفظ الإسبانية والإيطالية بملامح التقسيم الأصلي إلى اليوم، إلا أن الجرمانيين (منهم انبثقت الإنجليزية والألمانية) فضلوا استخدام الآلهة الإسكندنافية لتسمية أيام الأسبوع، فالأربعاء Wednes-day هو يوم الإله وودن أو أودن، والخميس Thurs-day هو يوم الإله ثور (ربما يعرفه الأغلب من أفلام مارفل) وحتى الجمعة Fri-day هو يوم الإله فراي/فرغ.



ماذا عن اليابان؟ تبني اليابان لفكرة الأسبوع حديث للغاية، وجاء تحديداً بعد انعزالها وانغلاقها التام على نفسها لقرابة القرنين والنصف من الزمان، وحين فتح اليابانيون حدودهم أخيراً، بالقوة بالطبع، في حقبة "الإيدو"، كان التوجه الياباني مثيراً للإعجاب؛ فعوضاً عن تبني الأسبوع كما هو قادماً من الغرب، كرر اليابانيون فعل البابليين ذاته: الأمر بسيط للغاية، نحن أيضاً لدينا الشمس والقمر، ولدينا أسماء للكواكب الخمسة، فلم لا نسمي أيام الأسبوع اليابانية تيمناً بأصلها البابلي مباشرة! إلا أن ما يميز الأسبوع الياباني حقيقة هو ارتباطه بالمثيولوجيا اليابانية، ومنبعها الصيني كذلك. فالكواكب الخمسة (من عطارد إلى زحل) أعطيت أسماء واحدة من أكثر الأفكار العتيقة استهلاكاً في سينما اليوم؛ أي عناصر الطبيعة الخمسة، وفق التصور الصيني لها، وهي: النار火، الماء 水، الشجر (الخشب)木، الذهب (المعدن)金، التراب (الأرض)土.


بهذا فأيام الأسبوع في اليابانية -إجابة للافتراض المدفوع بفضول البدايات- تشير إلى الأجرام السماوية التاريخية السبعة، وتشير أيضاً إلى عناصر الطبيعة الخمسة، وتستخدم الرموز الصينية للإشارة إلى هذه العناصر؛ فالأحد هو يوم الشمس "日曜日" (لاحظ تكرار رمز الشمس، مع اختلاف المعنى والنطق) والثلاثاء هو يوم النار "火曜日" وهكذا. الحقيقة هي أن هذه الطريقة في تعلم اللغات أكثر إمتاعاً وإدهاشاً، أي التعامل مع اللغة لا باعتبارها مفردات منفصلة قابلة للتركيب، بل نظاماً متكاملاً مرتبطاً بوجود الإنسان نفسه، وتحمل معانٍ تتجاوز تجريد الكلمات إلى تاريخ أمم، ومعتقدات شعوب. في نهاية الأمر، لا يتعلم المرء بطريقة كهذه سبع كلمات لأيام الأسبوع فحسب، بل الكلمات الأخرى المرتبطة بها: أي العناصر الخمسة، والكواكب الخمسة، والشمس، والقمر. بالإضافة إلى تحول الرموز الصينية من خطوط ومربعات مجردة إلى صور تحكي معناها بنفسها، وبمقدورها حجز مقعدها في الذاكرة.


إلا أن كل هذا لا يكفي، إذ لمَ يحصل اليابانيون على أيام أسبوع بهذا القدر من الإثارة، ويبقى العربي مغموراً بأكثر التسميات إضجاراً؟ فقط يوم الجمعة يحمل معنى وقيمة منبثقة من الثقافة المحلية، أما الباقي فترقيم رتيب من الواحد (الأحد) إلى الخمسة (الخميس)، وحتى السبت اقتراض مباشر من اليهودية. لا أظننا مملين إلى هذا الحد ومفتقرين للخيال! والحقيقة هي أننا لم نكن هكذا دائماً، ولكن لسبب ما، في مرحلة ما، بدأ العرب في استخدام أيام الأسبوع المعروفة اليوم. لم أجد مصدراً واحداً يقدم شرحاً واقعياً لأصلها، ولا لمتى حصل التغيير، إذ ربما يكون حصل قبل الإسلام أصلاً، ولولا أنها أسماء مملة لكانت نظريات المؤامرة في محلها بنظري. أما أيام الأسبوع العربية القديمة فهي كالتالي (ابتداء بالأحد): الأول، الأوهد (الأهون)، جُبار، دُبار، مؤنس، عَروبة، شِيار.


المبهر حقيقة، وأخالها أكثر من مجرد صدفة عابرة، أن يتوافق "المؤنس" مع الخميس تحديداً. ما يُقدم لشرح سبب تسمية هذا اليوم لا يعدو كونه فرضيات بطبيعة الحال، إلا أنها تستند -وهو استناد صائب غالباً- إلى الجذر اللغوي للاسم ذاته. لا يجد جذر "أ ن س" ما يقابله في عديد اللغات؛ توصيفات المشاعر البشرية خاضعة للتجربة الإنسانية ذاتها، فإن كانت السعادة والحزن والغضب مسلمات ومشتركات عابرة للثقافات واللغات، فإن ثمة مشاعر معقدة لا تجد اعتباراً إلا في لغات دون غيرها. خذ مثلاً في الألمانية Schadenfreude أي السرور الذي يصيب الإنسان عند وقوع مصيبة في غيره، أو حتى Fernweh أي الحنين إلى البعيد/الترحال، وفي هذه الحالة فالأنس مزيج عاطفي يعرف به العربي نفسه وكينونته ذاتها. يصف الأنس مزيجاً من مشاعر الألفة والطمأنينة والراحة والسعادة المرتبطين برفقة الآخرين؛ تُستأنس الحيوانات لتصير أليفة بدورها، أنا بشري وآدمي، ولكنني إنسان كذلك، أعرف نفسي بأُنسي واستئناسي لجنسي، فهذا جزء من طبيعتي في نهاية الأمر، وعلى الحيوانات مجاراتي فيه لتحظى بقربي. بطريقة ما حافظ العربي (في جزيرة العرب أكثر من غيرها) على جوهر الخميس المؤنس بطبعه، رغم تعدي اللغة على التسميات، وعبور القرون الطويلة. يحتفي العربي إلى اليوم بالخميس، ويتخير هذا اليوم، دون سواه، بحثاً عن رفقة تؤانس وحشة لياليه، ولهذا فهو يختار هذا اليوم تحديداً للزفاف، حتى صار الخميس مرادفاً للتزاوج. ويتغنى ساخراً "هلا بالخميس" أو كما يؤكد رابح صقر "خميس ومالي خلق أزعل ... أبى أستانس". جولة خفيفة في اليوتيوب كفيلة بتقديم مزيج فكاهي وغنائي يخص الخميس الونيس، وهي جولة جديرة بالتجربة على كل حال.

 

قادتني دروس اليابانية -في نهاية الأمر- إلى مقابلة لبروفيسور تاريخ في جامعة كاليفورنيا، وأوصلتني إلى تاريخ الأسبوع العربي. بطريقة ما فإنني حين تعلمت اليابانية تكشفت لي نقاط عمياء في إدراكي لتاريخي ومسلماتي الوجودية، وصلت في نهاية الأمر إلى أن أفهم نفسي وثقافتي أكثر، رغم أن هذا لم يكن الهدف من البداية. هكذا هو امتداد اللغة العابر للثقافات، وهذا هو ما يعنيه أن تنظر في أعين الآخرين لترى انعكاس وجودك وتجربتك وتاريخك فيهم، وتراهم هم، بك وبدونك، مشتركين معك في الإطار الوجودي ومختلفين عنك في التفاصيل، تتعلم عنهم لتفهم نفسك، وتحدثهم عن نفسك لتفهمهم. في نهاية الأمر، لا يهم إطلاقاً من أين نبعت فكرة عبثية كفكرة الأسبوع. ربما لو رأى البروفسور هذا، وربما لو رآه أشباهه كذلك، لكان هذا العالم أقل قسوة، ولو قليلاً، ولو أنهم توقفوا قليلاً لرأوا ارتباطهم بتاريخنا وارتباطنا بحاضرهم، واحتقان مستقبلينا معاً، ولكان الغرب أقل تبجحاً، ولو قليلاً.