عن سيدات القمر وروايات أخرى
عن سيدات القمر وروايات أخرى
ربما تكون "سيدات القمر" هي إحدى أكثر الأعمال التي قرأتها إثارة للخيبة والإحباط، أقولها هكذا صراحة ودون مقدمات، وأتساءل في الوقت ذاته لا عن سبب فوزها في الجائزة، فأنا لم أقرأ الترجمة الإنجليزية، وأدرك كذلك أن للجوائز (من كل مكان) شطحاتها الخاصة القائمة على اعتبارات ثقافية أيديولوجية وسياسية، دون التقليل من قيمة وأهمية الجوائز بطبيعة الحال. بل إن تساؤلي هو حول طبيعة العملية النقدية ومدى قدرة القارئ، هاوياً كان أو ناقداً مخضرماً، على تقييم الأعمال الفنية والأدبية مجردة من ألقابها وجوائزها.
يعيدني كل هذا إلى الرواية ذاتها، فالكاتبة العمانية -في تجربتي الثانية مع الأدباء العمانيين، بعد التجربة الأولى المذهلة مع "تغريبة القافر" لزهران القاسمي- كانت مربكة منذ البداية وحتى السطر الأخير، حرفياً ومجازياً. الحقيقة هي إنه من السهل عادة تمييز الروايات المتواضعة والكتاب السيئين؛ فاللغة فاضحة، وغياب الحرفة الأدبية، وعجز الأسلوب والتقنية، وقصر الخيال يسهلون من عملية النقد. إلا أن جوخة الحارثي ليست كاتبة سيئة، دون أدنى شك، ومن المؤكد أن للدكتوراة التي اكتسبتها في الأدب العربي يد في هذا، وتأثير واضح للغاية في روايتها. وهذا التمكن من الأساسيات، قد يكون -كما أخاله- سبب الخلط الذي أحاط بروايتها، والذي وجدته في عشرات التقييمات التي قرأتها للرواية، آملاً ألا أظلمها قبل أن أكتب هذا المقال، وهو خلط أعترف بأني شعرت به في مقاطع راودني فيها إحساس أن الرواية وجدت ضالتها أخيراً، لتعود هي وتتوه من جديد.
الحقيقة هي أن الرواية، وإن كانت صنفاً أدبياً، وبالتالي فنياً، تخضع للمعايير الذاتية في التقييم والحكم على الجمال، وتنفتح في الوقت ذاته على التجريبية والتجديد والإبداع الخلاق، إلا أن هذا لا يعفيها من النقد، ولا يبرر تجاوز إشكاليات أساسية في بنية الرواية لصالح تمجيد جموح الكاتب. وما حصل في "سيدات القمر" -وهو اختيار غير موفق إطلاقاً للاسم- هو أن الكاتبة حاولت التغطية على قصور النص والقصة بتنوع الأسلوب. فغيرت من أسلوب السرد داخل الرواية ما بين الراوي العليم في غالبها، والراوي المباشر الذي استفردت به شخصية واحدة فقط في الرواية بأكملها. تغيير الرواة المتكرر هذا رافقه تقسيم للقصة إلى شذرات حكائية تتنقل ما بين أزمنة وأشخاص ومواضيع دون أي مقدمات، فتتحدث بلسان المتكلم عن شخصية تارة، وتعود إلى ماضي شخصية أخرى بعدها مباشرة، وتنتقل إلى رواية أحداث تاريخية بعدها مباشرة، ثم تثقز إلى مستقبل بعيد، وهكذا دواليك، منذ الصفحة الأولى إلى الأخيرة.
لا يعني هذا إطلاقاً أنني أجد من مشكلة في القصة ذاتها، حتى أكثر القصص مللاً وروتينية في الأحداث والشخصيات بمقدورها أن تصير كنزاً في يد الراوي المتمكن، فالرواية -في نهاية الأمر- ابنة ضالة للحكاية الشعبية التي ملأت رؤوس البشر شغفاً منذ فجر التاريخ. إلا أن ما قامت به الراوية هنا ليس الإبداع السردي المطلوب، بل لعله أفقد العناصر الجمالية للرواية بريقها، خصوصاً حضور تفاصيل المجتمع العماني الغنية فيه. ف "سيدات القمر" رواية مبتورة إن صح التعبير، كان بإمكانها أكثر بكثير مما كانت عليه، وتتفنن في إضاعة خيوط السرد، دون أن يبدو للقارئ أن ثمة ما بدأ أو انتهى، ولا أن ثمة ما حدث بين هذا وذاك، بل لعله يشعر في الأسطر الأخيرة بأن كل ما قرأه لم يكن إلا مقدمة لما هو آت.
يمكن عموماً تلخيص الإشكاليات التي عاشها النص في الآتي:
السرد:
لا يعيب الكتاب إطلاقاً عدم تمكنهم من السرد، أي ألا يملكوا أقلاماً قادرة على السحر، وخطف عقول القرّاء بجمال اللغة وعبقرية الحكاية. كما ذكرت في مقال سابق قارنت فيه بين عدة روايات، تفوقت "تغريبة القافر" على نظيراتها من الروايات ذات السرد البديع، لتمكن الكاتب من الأساسيات، ولوضوح قيمة التجربة في نتاجه الأدبي. وهو ما كان ناقصاً هنا، فالتنقل بين الأحداث والأزمنة والشخصيات طبيعي في الرواية، إلا أن القفزات التي رأيتها، دون منطق وراءها، في "سيدات القمر" أذهلتني، إذ لم أكن أظن أن بمقدور أحد أن يضيعني بهذه السهولة. أضف إلى كل هذا أن قرابة المائتي صفحة فقط كان يفترض بها أن تجمع تاريخاً طويلاً، وعدداً كبيراً من الشخصيات، وتنوعاً في الأحداث، دون أن يحصل أغلبها على حقه، خصوصاً وأن السرد كان على شكل شذرات، وأقرب إلى لمحات عابرة لكل شخصية، وأشبه بحكايات عجائز مقتطعة السياق ومخيطة مع بعضها ب"صميل"، بينما تقبع بقية تفاصيلها في ظلام، يفقد مع عشوائيته القارئُ الرغبة في الاستكشاف، إذ لا وقت إلا للقفزة التالية.
الغريب في الأمر هو أنني قرأت رواية جوخة الحارثي بين روايتين هما من أجمل ما كتب جابريل غارسيا ماركيز وأكثره تعقيداً كذلك: "مائة عام من العزلة" و"موت معلن"، وهي قراءة كنت أحتاجها للتحضير لعملية كتابية مرهقة تتطلب إلهاماً لا تفي به أي رواية، فحتى "ثلاثية القاهرة" لنجيب محفوظ بقيت في رفها، دون أن أتجرأ على الاقتراب منها في وضعي الحالي، وفضلت عليها العودة لروايات كنت قد قرأتها قبل سنين. ولا أخفي هنا أن جزءاً من الإحباط نابع من ندم على أن تتوسط "سيدات القمر" هاتين الروايتين، وتفقدني توازني، بعد أن كنت دخلت حالة نشوة سردية. الشاهد هنا أنني لم أشكُ من روايات ماركيز رغم التعقيد الذي يعرفه كل من قرأها، فـ "مائة عام من العزلة" -تحديداً- تتصدرها شجرة العائلة الضخمة للخلط الذي تسببه تداخل الأنساب وتشابه الأسماء، ولكنها رغم كل هذا، لم تكن متاهة كسيدات القمر.
رواية "قصة موت معلن" بدورها دليل آخر على أن تمكن الكاتب من فن السرد، والحكمة في التجديد الأدبي، بمقدوره تجاوز قصور القصة، حتى وإن كان قصوراً متعمداً كما في حالة ماركيز، الذي بدأ روايته بأن يقول للقارئ صراحة بأن "سانتياغو نصار" سيقتل، ليترك القارئ أوهام البحث عن الإثارة البوليسية، وينغمس في السرد ذاته، السرد الذي هو في نهاية الأمر تحقيق صحفي، جعلني أفهم تماماً ما كان يعنيه جابريل غارسيا ماركيز في مذكراته حين تحدث عن أن التحقيق الصحفي والرواية أقرب إلى بعضهما من وجهين لعملة واحدة. مجدداً، التجديد في الأسلوب مرغوب ومتوقع، وبإمكانه أن يكون مبهراً، كما في حالة "قصة موت معلن" التي استطاعت أن تحصر نفسها على حدث وزمن وشخوص تكفي صفحاتها المائة والعشرين.
ما يعنيه كل هذا هو أنه كان بالإمكان خلق رواية مختلفة تماماً عما أنتجته جوخة الحارثي، وهي وإن كانت رواية قد لا تفوز بجائزة معتبرة كالـ "مان بوكر"، إلا أنها ستنتج رواية جذابة، لا تجعل القارئ يلاحق الكاتب لاهثاً، ومحاولاً أن يخمن في أي زمن تدور الأحداث الآن، وأي شخصية يتم تتبعها، وإلى أين تريد الكاتبة أن تأخذه معها، خصوصاً مع نهاية غريبة كتلك.
الشخصيات:
وهذا الجانب تحديداً هو أكثر ما يعيب ويقلق أي راوٍ، بمن فيهم أنا، فليس من السهل أن يخلق المرء بشراً آخرين لكل منهم فردانيته وحياته التي يتعرف الكاتب عليها أحياناً أثناء الكتابة، وأن يجعل كل هذا الشخصيات المختلقة تتفاعل مع بعضها في نهاية الأمر. إلا أن سيدات القمر كان نتاج محاولة خلق فاشلة، استغربت كثيراً حين حازت من بعض القراء على مديح مهول. أهم وجه لهذا الفشل هو أنها ولدت شخصيات أحادية البعد، ومكشوفة منذ اللحظة الأولى بتدخل من الكاتبة نفسها. المثال الأبرز على هذا هن الأخوات الثلاث التي صنفتهن الكاتبة من البداية بأكثر التقسيمات النمطية مللاً وأقربهن إلى الكسل الإبداعي، فالأولى هي القارئة النهمة المثقفة، والثانية هي المهووسة بجمالها المتربعة أمام المرآة لساعات، والثالثة هي الهائمة التائهة التي لا قول لها ولا رأي. لتصبح هذه الأوصاف هي التعريفات المحددة للشخصيات وتصرفاتها، ويصبح معها من السهل للغاية توقع مسار الأحداث. الأمر يتكرر مع شخصيات أخرى كذلك كسنجر ووالده الذين وسما بالثورية على العبودية. هذا البعد الواحد للشخصيات يخرجها سطحية للغاية، وتنويع الشخصيات ذات البعد الواحد لا يعني أنها شخصيات جيدة، كما أن جعل هذه الشخصيات تقوم بعمل غير متوقع فجأة، كما في حالة خولة التي قررت الانفصال عن ناصر بعد سنين طوال من الصبر والانتظار، لا يعطي هذه الشخصية أي عمق، أو تعقيد في التركيب، بل يشوش أكثر على القارئ، الذي لا يجد ما يبرر تصرفات الشخصيات.
لا يعني كل هذا ألا شخصيات جيدة على الإطلاق، شخصية ظريفة كانت مثالاً جيداً لشخصية مركبة بتجارب وتاريخ وتناقضات وسمات تتجاوز الصفة الواحدة، إلا أنها كغيرها من ضمن الاستثناءات، لا القاعدة.
الحشو:
الحقيقة هي أنه يصعب تخيل أن رواية قصيرة فيها كل هذا الحشد للأحداث والشخصيات بإمكانها أن تتضمن حشواً، ولكنها فعلت. أبرز مثال على هذا هو غراميات عزان مع الملقبة بـ "القمر"، وهي إضافة مستغربة في بدن القصة، لا تقدم ولا تؤخر إطلاقاً، ولا تأثير عليها على باقي الرواية، وبالإمكان إزالتها بأكملها دون أن تفتقد الرواية أي شيء. الشعور الذي راودني حقيقة هو أن الراوية لجأت إلى هذا الحشو لتجد طريقة لإقحام القمر والأجرام السماوية، كما ولتقحم القصيدة العربية الكلاسيكية (التي تبدو الكاتبة عارفة بها) في القصة.
إلا أن باقي الحشو لا هدف وراءه، التكرار تحديداً كان مملاً للغاية، خصوصاً في تأملات الرجل المتكلم بلسان الراوي المباشر في ذكرى والديه أو علاقته بظريفة.
لا بد هنا من إعادة التأكيد على أن جوخة الحارثي ليست كاتبة سيئة، فالكتاب السيئون سهل تمييزهم، وأسهل منه رؤية القصور والفجوات التي تملأ أعمالهم، لكن المؤكد هو أن "سيدات القمر" رواية متواضعة، أتاحت لها الظروف الفوز بجائزة انتشلتها من براثن النسيان بعد سنين من نشرها لأول مرة. وإن كنت لا أجد حرجاً في الاعتراف بتغلب العاطفة علي وانجراري وراء الإحباط أثناء وبعد القراءة، فمن المؤكد في الوقت ذاته أنني بذلت جهدي لمحاولة تقديم الأعذار للكاتبة، وقرأت -أكثر مما أفعل عادة- تقييمات عنها، محاولاً تلافي أي قصور تنتجه العاطفة، إلا أنني أنتهي هنا إلى نقد أدرك كم هو لاذع، ولا يشبه إلا نقداً سابقاً لرواية "وحي" لحبيب عبد الرب السروري الفائزة بجائزة كاتارا.
الحقيقة أنني مررت في قراءاتي، وإن لم تكن بتلك الغزارة التي أتمناها، بعشرات الروايات والقصص الرديئة التي لم ألق لها بالاً، بل ونسيتها تماماً، وهي ردة فعل أحسبها طبيعية تجاه أي عمل لا يعجبني، لحاجة في نفسي أو لرداءة في العمل ذاته، ولكنني أتوقف مرة واثنتين وثلاث أمام الأعمال التي تحصل على كل هذا المديح، وتنتهي أحياناً إلى الفوز بالجوائز.
الحقيقة القائلة بأن الروايتين "وحي" و"سيدات القمر" فازتا بجائزتين أدبيتين وحصلتا على كل هذا المديح كانت كفيلة بجعلي أنهي قراءة روايات كنت لأتركها من فصولها الأولى، وكانت كفيلة -كذلك- بجعلي أحاول تقديم الأعذار والبحث عن المبررات والانفتاح على أن معاييري النقدية قد تكون مضروبة من جذورها، ولا يسعني إلا أن أتخيل مدى فداحة تأثير هذا الضغط الذي يخلقه المجتمع على القارئ وطريقة تعاطيه مع الرواية. في نهاية الأمر، قد يتطلب الأمر طفلاً ليشير إلى عري الملك.