بين الغابة الكثيفة وشرفة منزلنا مزرعة، أو مزارع، وطريق ترابي يربطنا ببعضنا، نادراً ما أمر عبر مثيله في مدينة مدفونة تحت أطنان من الإسفلت. طبقات الإسفلت هنا أعمق مما ينبغي، خانقة، وتحرم المارين من معنى الأرض، ولا تشفع لها الأرصفة، والأشجار المصفوفة على أمل امتصاص الغازات المنبعثة من السيارات الكثيرة، ولا حتى الصيانات المتكررة التي تحاول أن تكشف لعابر مثلي وجه تلك الأرض المنسي، وتنتهي بأن تشعرني بالغثيان، فلا شيء تحت الرصيف يستحق التأمل، اللهم إلا وجوه العمال المتأملة لخنادق الإسمنت، وخطوط الإمداد التي تبقي المدينة، كل المدينة على قيد الحياة! ولكن الطريق الترابي بين تقسيمات المزرعة، وبين البيت والغابة، وبين تقاسيم الغابة، يوحي ببعض الألفة، بشيء قديم نعرفه جميعاً، ويدفعني -أكثر من كل شيء- للتساؤل عما يعنيه أن يكتب المرء عن التفاصيل البسيطة، عن السحر القابل للنسيان، واللقطات السينمائية المفعمة بروح العادة، وضجر الأيام المتوالية! فبين الغابة الكثيفة وشرفة منزلنا مزرعة، وبين المزرعة والمزرعة طريق ترابي، وبين نهايتي الطريق المؤديتين إلى الإسفلت أسرح أحياناً، وأجبر كاميرتي على تقمص روح أغلى من روحها، دون جدوى، فالكاميرات الرخيصة لا تلتقط تجاعيد العجوزين المتهاديين، ولا اضطراب الفاتنة الملتجئة إلى مظلتها من الريح، وأكثر من كل شيء، فهي لا تتجاوز انكسار الضوء الرتيب في زجاج نوافذنا، كاشفة لي، قبل المزرعة، وقبل الغابة، وقبل المارين المناسبين جداً للحضور السينمائي، كاشفة لي عن البقع التي خلفتها الأمطار الكثيرة، والشتاءات الوحيدة، والجفاف القصير الذي يتيح لي أن أكتب كل هذه الكلمات بعد طول انقطاع.
ليس الأمر وكأن كل ما بين شرفة المنزل والغابة سينمائي الطابع، تعبر كل يوم مرتين خمسة كلاب تجرجر وراءها صهباء ضجرة، لم أطق وجهها يوماً، بعض الوجوه محفزة للعنف، ولم يخفف منه أن هاجمني إحدى كلابها مرة، دون أدنى ردة فعل منها، أو اعتذار. أشخاص كهؤلاء أيضاً يعبرون الطريق الترابي ذاته، وكلاب كتلك بدورها تتبول على طول الطريق الترابي، ولكن الواقع -رغم كل هذه الصور الباعثة على الغيظ- ليس بالسوداوي إطلاقاً، فعلى جانبي ذات الطريق ينوّع مزارع بين محاصيله، ويتيح لابن مدن كثيرة ومملة مثلي مرافقة الذرة والقمح أشهر النمو العجل، والحصاد المفاجئ! وبين جانبي ذات الطريق، تسير هي، وأسير أنا، وتتشابك يدانا، ونسيل ألفة مع كلماتنا الكثيرة، والمكررة، بين المطبات الوعرة من أثر العابرين، وبقع الوحل المترددة، والغربان التي لا تشبه ما عرفناه في الأفلام. أتمنى أحياناً لو تجتهد كاميرتي قليلاً، لمرة واحدة، وتنجح في التقاط مرورنا، محاطين بحقل قمح يافع، أو محاصرين بجدران حقول الذرة، ولو فعلتها، لأعفيتها من كل المشاهد السينمائية الأخرى، مكتفياً بسحرنا القابل للخلود، طالما رافق هذه النص الروايات المقبلة!
بين الغابة الكثيفة وشرفة منزلنا مزرعة، وطريق ترابي، وتذمري من زياراتي النادرة للشرفة، إلا لكنس الغبار المتراكم، وشباك العناكب المثابرة، وتسميم الدبابير، وتململي من ندرة زيارتي للغابة، وإن كنت تجاوزته بعد الزيارة الوحيدة! في نهاية الأمر، أنا ابن مدن، ولي ارتباط سمّيّ للغاية بالإسفلت ومبيدات الحشرات، ولي احتقار لا يمكن تجاوزه لجميع الجيران الذين لا يحصنون نوافذهم بالشباك! هذا الطريق الذي يتوسط المزرعة، ويؤدي إلى الأسفلت، هو المراضاة التي أكتفي بها مع الأرض، هذا القدر من الطبيعة يكفيني، يشبهني، ويبعث فيّ القدر المعقول من الحنين إلى الماضي، إلى الحارات التي لا تعرف الإسفلت، والحارات التي لا تعرف الرصيف، والحارات التي لا تعرف خطوط الإمداد المخترقة لخصوصية الأرض، فهذا القدر من الأرض يغنيني عن ولوج الغابات وتقليد الرجل الأبيض المنغمس في قدسية الطبيعة وواجب حماية الأرض! لا أحد يخبرك مثلاً عن عدد ونوع الحشرات الذي سيلاحقك في الغابة، ولا أحد يخبرك عن كم قد تكون الغابة مظلمة، وموحشة. أطراف الغابات الخفيفة ذات الأراضي المعبدة لا تعدو كونها حدائق مهجنة، أما الغابات الحقيقية فلا تشبه إصدارات الرسوم المتحركة، ولا تحرك فيّ غير حاجة إلى الهروب، وهذا يعني الكثير حين يقوله رجل كثير الهروب مثلي!
هكذا هي الأمور حين تطل شرفتك على مزرعة، وطريق ترابي، وغابة، وهكذا هي الأمور حين تحاول أن تفكر في ما اعتدته حتى النسيان، محاولاً أن تقول شيئاً عن البعيد، وغير المألوف، والأخّاذ، وراجعاً في فحوى النص إلى التفاصيل التي تعرفها جيداً، وتجيد الكتابة عنها، ففي نهاية الأمر، يتطلب الأمر غزالاً صغيراً شارداً ليلتفت المرء إلى قربه من السحر، ومن أشياء لا يفهمها، ولا يعرف عنها إلا أنها قد تهرب فجأة من خلف ذاك السور الأخضر الكثيف، وتدفعك إلى التأمل، وتدفعك إلى الكتابة، وتدفعك إلى مراجعة حساباتك وإعادة التفكير في مركزية الشرفة في منزل يطل على مزرعة وغابة وطريق ترابي.