كنت في الثانوية حينها، على طاولة العشاء، أمامي أستاذ اللغة التركية، وبجانبي أعضاء لجنة تحكيم قدمت من تركيا لاختبارنا في صباح اليوم التالي، وبطيش طفولي، بدأت محادثة عابرة مع الأستاذ في محاولة لفرد عضلاتي اللغوية، محادثة عابرة عن كرة الطائرة، لا شيء مميز، ولكن الصدمة التي علت أوجه الضيوف الأتراك وأسئلتهم المتعجبة حينها دفعتني للتوقف بسرعة، قبل أن يتدخل معلم آخر لتوضيح اللبس ببعض الدعابة. كنت قد تعلمت بالفعل عن صيغة الاحترام في اللغة التركية، يُستخدم الجمع تحديداً لمخاطبة الغرباء ومن هم أكبر سناً، ولكنها لم تكن قد حفرت في مخيلتي بعد، ولم أتعامل حتى ذلك الوقت مع أتراك آخرين غير قادرين على تفهم الاختلافات بين ثقافتينا، وغير مستوعبين لكيف بإمكان طفل مثلي أن يخاطب أستاذاً يوقره الشيب بضمير "أنت" حاف ومفرد كذاك.
تذكرت الموقف فجأة، بعد أن كنت قد نسيته تماماً، إثر قراءتي لمنشور لمحمد عطبوش، يبدو أن انتشر بسرعة، حتى تلقفته صفحات أوصلته إلي. تناول محمد موقفاً مشابهاً حصل له في المغرب، وتطرق إلى صيغ الاحترام هذه، وذكرني أكثر من أي شيء بالطريق الوعرة التي تعنيه صيغ الاحترام في اليابانية.
الحقيقة هي أن صيغ الاحترام منتشرة للغاية في مختلف اللغات، حتى تلك القادمة من عائلات لغوية متباعدة، حتى يبدو لي أن انعدام صيغ الاحترام هو الاستثناء، لا العكس. للأمر خلفياته الثقافية المرتبطة بتنظيم علاقات الناس داخل المجتمع الواحد، ورسم الحدود التي تجمع بين أفراده وتفرق بينهم في الوقت ذاته. الاحترام ذاته فعل ذو وجهين، يقرب الناس من بعضهم بكبحه لجماح النزوات الفردية لصالح التقارب مع الآخر، فأنت حين تحترم الآخر الغريب عنك، فإنك تخالف أنانيتك لتكسب ثقته، راجياً أن يبادلك الآخر بالعكس، في تجل لتقارب مجتمعي، له وجه آخر يُعنى أساساً بخلق مسافات بين الناس، غير قابلة للتجاوز، من باب الاحترام، وغالباً ما تكون مسافات ناتجة عن العمر أو الرتبة الاجتماعية أو المهنية.
تنصاع اللغة في نهاية الأمر لتقلبات المجتمع، لا العكس (وهو موضوع لا بد من حديث مطول عنه)، وتقدم اللغة العديد من الحلول لإظهار هذا الاحترام. العامل المشترك بين غالب الحلول يكمن في تجنب تام للمخاطبة المباشرة، أي بضمير "أنت" دون مقدمات، والالتفاف عليه، سواء كضمير، أو كصيغة مجملة للكلام، بمخاطبة قيمة أخرى، تعني غالباً المخاطب الأصلي، وتفهم من سياقها دون الحاجة إلى الشرح.
تلجأ التركية مثلاً إلى استخدام صيغة الجمع، فيتم مخاطبة كبار السن والرتبة، كما والغرباء، بصيغة الجمع، وتحديداً بضمير siz الذي يأتي مفرداً، أو يدخل كجزء من تصريفات الأفعال ولواحق الأسئلة والأسماء، وهو أمر تشاركه في التركية أيضاً الألمانية، وإن كان الحال أكثر تعقيداً في الألمانية مع ضمير Sie، حتى يصل الأمر في الألمانية إلى أن عجوزاً دخلت معها في ملاسنة شعرت بالإهانة لاستخدامي ضمير du (أنت) مجرداً، متناسية حتى أصل الخلاف. لسنا هنا للحديث عن تفاصيل كل لغة، ولا يهمنا أكثر من حضور صيغة الاحترام في رداء ضمير الجمع، وهو حضور لطالما تواجد في الإنجليزية كذلك، حالها حال أغلب اللغات الأوروبية، واختفى مع مرور الزمن، بل ربما تحايل عليه متحدثو الإنجليزي بتضمين ضمير you لكل من المفرد والجمع، مخلصين أنفسهم بهذا من وجع الرأس.
الأسلوب اللغوي الآخر للالتفات على الخطاب المباشر يظهر في اليابانية، بل ويزدهر فيها، ويتوغل في كل تفاصيلها. ويأتي في صورة نسخة إضافية من اللغة (قواعداً ومصطلحات)، مشبعة بتعبيرات الاحترام، تعيش جنباً إلى جنب رفقة النسخة الاعتيادية. تتحقق هذه النسخة الإضافة في اليابانية في وجهين:
· البنية اللغوية:
فالإفعال -مثلاً- يمكن تصريفها مع مختلف الأزمنة والإضافات على وجهين، الأول هو ما يسمى بتصريف المعجم، يبقى فيه الفعل بنهايته المعتادة، والآخر يتم بتصريف الاحترام المبني على masu وdesu وتنويعاتهما. حتى الأسئلة قد تتغير كلياً اعتماداً على الموقف، فسؤال مثل: من يكون ذاك الشخص، تختلف باختلاف المعني به، أي قد تكون ano hito dare? أو ano kata donata desu ka? وكلاهما يفي بالغرض ذاته، بصياغتين مختلفتين جذرياً. الأمر ذاته يتحقق في مختلف العبارات التي تزداد طولاً وتعقيداً باختلاف المواقف، كتلك المخصصة للتعبير عن الشكر والامتنان، أو تلك المعنية بالاعتذار، وغيرها.
· التجنب التام للخطاب المباشر:
إن كان الأمر يتم بصورة غير مباشرة عند بقية اللغات، فإنه فعل واعي للغاية عند اليابانيين، حتى أن استخدام الضمائر التي تفيد الخطاب -أي أنت وشبيهاتها- يتم تجنبها قدر الإمكان، وهي كثيرة في اليابانية، بعضها فيه احترام أكثر من غيره. يتم استبدال الضمائر عادة باسم العائلة (اللقب) لكن ليس دون ملحقات مثل sama وsan اللتين تلحقان أسماء الناس. الطريف في الأمر هو أن ضمائر المخاطب كما ولواحق الاحترام تفيد في غالبها الجهة، لا الشخص، فعوضاً عن استخدام الجمع كما في التركية والألمانية، يشير الياباني إلى الناس بتعبيرات معقدة، يمكن اختصارها في العبارات التالية: أنت الواقف في تلك الجهة (غالباً أمامي)، أو أنت القادم من تلك الجهة/البيت/العائلة.
يصل الأمر في مبالغة اليابانيين هذه إلى أن تكتسب الصياغات الاعتيادية معان حميمية، فالضمير المشهور anata (أنت) تحول إلى مفردة تستخدمها الزوجات في مناداتهن لأزواجهن بمعنى "عزيزي"، وهذه الحميمية تتطلب بالتالي تعبيراً صريحاً من الجانبين بجواز التخفف من حمولة الاحترام اللغوية، فيطلب الأول من الآخر مناداته باسمه الأول، عوضاً عن اللقب، أو بالتوقف عن استخدام صيغ الاحترام معه، متى ما شعر بالقرب منه، أو ود التأكيد على أنهما صارا أصدقاء أو أحباء.
الحقيقة هي أن العربية ليست بعيدة عن كل هذا، وإن كانت البنية اللغوية، وحتى عادات أغلب الشعوب، تعطي حرية في الخطاب المباشر. فكما ذكر محمد في منشوره، فالعديد من اللهجات، كالمصرية والمغربية، تحبذ استعمال ألفاظ التبجيل، أو على الأقل المسميات الوظيفية، عوضاً عن ضمير أنت، أو حتى الاسم الأول للمخاطب، فتنتشر عبارات مثل: يا أستاذ، يا دكتور، يا بش مهندس، حضرتك، سيادتك وغيرها. الأمر معروف في العربية قديماً حتى، وتحديداً في لهجة مخاطبة الملوك، وهي حاضرة إلى اليوم، حيث تستخدم صيغة الجمع، أي "أنتم"، وهو ما لا يحظى به حتى الله، الذي -كما ذكر عطبوش- يؤكد العرب على وحدانيته بمخاطبة مباشرة دون أي حواجز.
تمتد الأمور لأبعد من هذا، كما في حالة اللهجة الصنعانية، التي أرجح، وغيري كثيرون، أنها اقتبست صيغة الجمع للاحترام من العثمانيين. وهو رأي راجح بنظري، يدعمه أكثر من كل شيء عزلته في محيطه، كما وكونه اقتباساً أعمى لم يحظ بفرصة تطور طبيعية في المجتمع، كما هو حال غيره، وهو ما سنراه بعد قليل. ما يميز صيغة الاحترام في اللهجة الصنعانية، وهو أمر لا يحظى بأي إعادة نظر، هذا إذا ما لفت النظر أصلاً، هو أن استخدام صيغة الاحترام جامد فيها، ويحضر في مواقف فريدة لا تشبه اللغات الأخرى التي ذكرناها آنفاً.
فالمخاطبون بصيغة الاحترام مثلاً ليسوا الغرباء، الغرباء يحصلون على "أنت" مجردة وعادية، بينما يحظى بها بدرجة أولى كبار السن ومن هم أعلى رتبة. يصل الأمر إلى اعتيادية مخاطبة الوالدين والأجداد وربما جميع الأقارب بصيغة "أنتم"، وهو استخدام يخالف اللغات الأخرى، لأنه لا يسقط بالقرب والاعتياد، ويحافظ دائماً على مسافة واحدة غير قابلة للتجاوز، حتى في صيغة الغائب، فلا يمكن الإشارة إلى الأب بضمير "هو"، تقول زوجتي "أمي سافروا أمس" وأحياناً تُسقط أمي، فلا أعرف هل تعني أمها فحسب، أم عائلتها بأكملها. ثمة حالات أكثر تطرفاً، وهي قليلة، ولكن موجودة، تنادي فيها المرأة زوجها بصيغة الاحترام، وتؤكد بهذا على فارق المراتب وحضور المسافة، وهذه المسافة تعرف العلاقات داخل المجتمع الصنعاني، وأجزم أن لها تأثيراً على علاقة الأبناء بآبائهم، وهو تأثير فيه من التبجيل الكثير، أراه في زوجتي وأصدقائي القادمين من صنعاء، ولا أخفي استهجاني له في بعض الأحيان.
يمكن التدليل على تأثير هكذا خطاب على العلاقات المجتمعية بنقيضه، أي بالحالة الأوروبية التي يخاطب فيها الأطفال آباءهم بأسمائهم حتى، مجردين من أي احترام، لغوياً كان أو فعلياً، يقود غالباً إلى زعزعة لمكانة الوالدين من أساسها، ونهايات مؤسفة تلاحقها أشباح الوحدة أو التعفن في دور العجزة. من المهم التأكيد على ان التعبيرات اللغوية ليست السبب الرئيسي، وليست المؤشر الوحيد، على طبيعة العلاقات بين الآباء والأبناء، ولكنها تجلٍ ثقافي فحسب، ولا بد من رؤيتها من هذا المنطلق.
كل هذا يدفعني أكثر إلى التفكير في استنساخ اللهجة الصنعانية لصيغة الاحترام من العثمانيين باعتبارها أقرب الفرضيات إلى الصواب، وهو ليس بالاستنساخ الإشكالي في طبيعته، فجميع اللغات تخوض علاقات التأثير والتأثر هذه، وهو ما لا يمكن الوقوف ضده، ولكن أياً من هذا لا يعفي من التساؤل عما إن كان كل هذا احتراماً بالفعل، وعما إن كانت اللغات عموماً تهتم بالاحترام حقيقة، أم أنها تنصاع للهيكلة المجتمعية التي تحاول أن ترسم علاقات الناس ببعضهم.
يفترض بالاحترام، كأي قيمة مجتمعية وأخلاقية أخرى، أن يكون إحدى الأساليب التي تسمح للبشر بتكوين المجتمعات، وتساعد بهذا في تقاربهم، مزيلة حاجز الغرابة، ومسهلة من تعاملهم مع بعضهم، وضابطة جموح الفرد لصالح الجماعة، إلا أنه تحول، بعد كل هذه الألفيات، إلى محاولة لتعريف المسافة، فحين يصرخ أحدهم في الهاتف مطالباً إياك بمخاطبته بـ "دكتور"، فهو لا يعنيه الاحترام، أنت لم تقلل احترامه أصلاً، وحين تستشيط عجوز ألمانية غضباً لأنك لم تخاطبها بصيغة الاحترام، فهي لا يعنيها الاحترام، أنت تحاول أن تهينها أصلاً، ما يعني الدكتور، وما يعني العجوز، هو خلق المسافة، المسافة التي تمكنهم من الابتعاد عنك، وتعريف علاقتهم بك باعتباره اعلاقة ذات بعد واحد يكون للأكبر فيها اليد الأعلى. اللغات مثيرة للغاية، ممتعة، وتجذبني في تنويعاتها وألغازها، وما تخبئه من أسرار قومها، أما البشر، فأتساءل حقاً عما إن كانوا يستحقون الاحترام، خصوصاً أولئك الذين لا يكفون عن المطالبة به.